بعد رحيل شاعرنا وكاتبنا وناقدنا الدكتور محمّد العيد الخطراوي -رحمه الله ورطّب ثراه- رأيت إيفاءً بحقّ الصداقة؛ واحتفاءً وتبجيلاً بنشاطه الفكري المتنوّع؛ أن أكتب عنه شيئاً يعرّف بناحية من اهتماماته العديدة؛ التي تشهد بها كتبه الكثيرة. ذلك أن صاحبنا ضرب بسهم في أكثر من ميدان، فإلى جانب اهتمامه بالفقه وقضاياه؛ كتب في الأدب والتاريخ! ولعل من أبرز المؤلفات التي اعتنى بها في هذا الميدان تأريخه للمدينة المنوّرة في عهود ثلاثة؛ خص كلّ واحد منها بكتاب بدءاً بالعهد الجاهلي، فالعهد الإسلامي الأول؛ ثم المدينة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية «دراسة» إلخ... ومن المؤكد أن في هذه المؤلفات الضخام دراسات وبحوثاً كثيرة عن تاريخ المدينة من النواحي الأدبية والاجتماعية وحياة الناس فيها... ولا شكّ أن هذه المؤلفات خليقة بالاهتمام؛ وهي حقيق بدراسة مستوفاة من قبل الباحثين والمهتمين بتاريخ المدينة وحياتها! أما أنا، فقد اخترت أن أحدثكم الليلة عن جانب أدبي يتعلّق بتاريخ الشعر والشعراء في العصر الحديث؛ انطلاقاً من كتابه: (شعراء من أرض عبقر)! وفي لفتة عابرة لبعض رفوف مكتبي بجدّة؛ لمحت شاعرنا وكاتبنا من خلال دراساته: «شعراء من أرض عبقر». فأخذت أتمعّن فيه وأتساءل من أين أبدأ؟ فهذه الدراسة طبعت في المدينةالمنورة؛ في شهر ربيع الأول سنة 1398 ه. ونقرأ في مقدمة هذه الدراسة قول المؤلف: «وقد حاولت أن يكون هدفي فيما كتبت: التعريف والتّنويه وذكر المحاسن أكثر من ذكر المعايب والمآخذ؛ عدا بعض اللّمسات النقدية الخفيفة التي كان لا بد منها»! ويضيف الدارس: (وللأمانة التاريخيّة فضّلت أن أبقي الموضوعات على صورتها التي كتبت عليها أول مرّة وأذيعت بها دون حذف أو زيادة؛ ولم أتصرف في غير العنوان، حيث حل الجمع مكان الإفراد... وقد أخرجتها في جزءين؛ هذا أولهما؛ ليسهل تناولهما وتخفّ قراءتها على الناس، لأنني رأيت الأكثرين في عصر السّرعة الذي نعيشه، يميلون إلى اقتناء الكتب ما خفّ حمله وصغر حجمه؛ وليس لهم صبر على ما كبر أوطال)! ولو قدر لي قراءة هذا المؤلف: «شعراء من أرض عبقر» عند صدوره قبل ستة وثلاثين عاماً أو بعدها بقليل في حياة مؤلف هذه الدراسة لكتبت: إليه بإعادة النظر في قراءة «الحلقات الإذاعية»، التي تناولت أولئك الشعراء بتعديل حالها بين تقديمها عبر برنامج إذاعي سريع وقتاً وتناولاً، وبين إصدارها بين دفات مجلدين في صيغة دراسة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، فذلك ما كان ينبغي عمله، ذلك أن الأيام أغيار كما قال شيخنا الجليل محمد متولي الشعراوي -رحمه الله ورطب ثراه! ويبدو أن الأستاذ الخطراوي لم يتح له العودة إلى ما كتب قبل عقود ليضيف ويغيّر ويجدد قراءاته؛ فالرجل كان مشغولاً بأعماله الدراسية والإدارية في التعليم العام ثم في كلية التربية ودراساته وقراءته المختلفة، فلا وقت له ليعيد النظر وقراءة ما كتب ليبدي ويعيد فيه، لأنه لا وقت له في حياته العملية وشواغله المتعددة! وأكبر الظن أنه غير مستطاع أن يصنع شيئاً نحو ما كتب وقرأ وأذاع! ففضّل صرف النظر عن إعادة قراءة تلك الأحاديث الإذاعية السريعة؛ ليقدمها من جديد دراسة فيها من العمق ما يتماشى مع تجدد الأيام وتطور الحياة المتجددة المعطيات! فالدراسات بعامة تتطلب شيئاً من التفرغ لها والتأمل! والدكتور الخطراوي شغل نفسه بأمور كثيرة صرفته عن النقد والدراسات المتجددة والتيارات التي استجدت مع الحياة في الوطن العربي والغربي، فاضطر الرجل المشغول بجوانب شتى، لا أقول ليملأ فراغاً فليس لديه أوقات يبددها إلا أنه شغل بحياته العملية والدراسات، وفي نادي المدينة الأدبي «نائباً لرئيسه»، وبحياته العائلية وما إليها؛ ثم حلت به ضروب من الأمراض شلّت حراكه سنين فلم يتح له أداء أي نشاط ذهني متجدد! وأنا كنت مشغولاً بأعمالي الصحافية والإدارية، عبر سنين طوال في النادي الأدبي الثقافي بجدة، أخذ كل وقتي، فلم أفرغ إلى القراءة الحرة يوماً أو حتى ساعة، وقلت لبعض الأصدقاء إنني خلال انشغالي بمسؤولية النادي لم اقرأ كتاباً واحداً! ربما اعتبر ذلك خسارة بالنسبة لي؛ غير أن المخلصين الواعين الأوفياء لم يروا ذلك خسارة إذا قيست بما حقق نادي جدة من نجاح، كل ذلك بفضل الله وعونه وتوفيقه.. إذاً فلا ينبغي وقد قدر لي أن أقول كلمات في نادي المدينة الأدبي، الذي كان يشارك في إدارته ونشاطه الدكتور الخطراوي كواجب عليَّ له، فلا أرى أنه يجب عليَّ أن أشير أو ألوم أخي الخطراوي بأنه كان ينبغي على صاحب تلك الدراسات التي تحولت أو جمعت على الأصح في مطبوعة أسماها صاحبها: «شعراء من أرض عبقر».. لا أرى أنه كان عليَّ أن أبدي آراءً أعارض فيها أو أنتقد محتوى «المجلدين»! ولو كان الرجل حياً في مقدوره أن يحاور ويداور ويرد على ناقديه أو معارضيه، وقد عرفته قوياً ذا حجج وأدلة ومنطق! وكان بإمكاني أن أبدي الرأي كما قلت آنفاً أن أجمع تلك الأحاديث الأدبية «الإذاعية»، حينما أراد كاتبها أن يضمها في كتاب فألقى بها كما هي؛ وقد قلت إن الرجل كان مشغولاً بالوظائف المختلفة والقراءات، ولا وقت له أن يفرغ إلى تلك الأحاديث المذاعة وأن يعيد فيها النظر فيضيف ويحذف ويعدّل! إنني ألتمس له العذر، وبعد انتقاله إلى رحمة الله بعد مرض امتد سنوات، لا داعي أن يعتدي متحدث- وأنا أتحدث عن نفسي- فيشرع ينتقد آراء مرّ عليها سنين وذهب كاتبها إلى رحمة الله.. إذ رأيت أن الأجدر بي استعراض تلك الدراسة ونقل آراء كاتبها إلى المستمع والقارئ دون اعتراض ونقد، وفي هذا العمل السريع وفّرت على القارئ أوقاتاً لا يملكها ليفرغ إلى قراءة مجلدين، ذلك أن الوقت همومه وشواغله لا حدود لها! ولعل هذه المقدمة تشفع لي لأني لم أقدم دراسة على الدراسة كما ينبغي، ولكني نقلت أطرافاً من أحاديث المؤلف؛ أكبر الظن أنها أعجبتني، فلا مجال عندي أن أضيف إليها كلاماً على الكلام ربما أصبح لغواً، وقد اقتنعت بما قرأت وطالعت: «أحاديث من أرض عبقر» ويشكر عليها كاتبها في حياته، ويرحّم عليه بعد انتقاله إلى الدار الآخرة.. وللقارئ النابه الواعي رؤاه! وأزعم أنه قد يرضيه ما يطالع مما سطره الخطراوي -رحمه الله وغفر له. إن القراءات الواعية للنصوص يخرج منها المطالع بالرضا أو الاختلاف أو بين بين! ولعلي أتطلع إلى دارس لمؤلفات الدكتور الخطراوي فأستمتع بما يتاح لي قراءته لدارس واع ذي اهتمامات بما يطبع من كتب خليقة بالمطالعة والدرس، وإن كان الوقت «ضنين» اليوم؛ فالحياة ركض وسعي وترحال وشواغل لا حدود لها! فالزمن غير الزمن؛ والحياة ما تفتأ تتعقد وتزداد عسراً وهموماً وعناء؛ وقد قال الحق سبحانه:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}. وقد تناول أستاذنا الخطراوي في دراساته شعراء عدّة «من أرض عبقر)، كما أسمى الكتاب الذي تناول فيه قراءاته لأولئك الشعراء؛ وقال في حديثه: (سنقدم لكم في كل حلقة إن شاء الله شاعراً نتفيّأ ظلال شعره؛ ونعيش في رحلة قصيرة بين محاريب وحيه وإلهامه؛ نتلمّس شخصيته ونستمتع بعرائس فنّه، واخترنا أن يكون هذا الشاعر وليد البيئة؛ نجتلي معه حماستها وننشر مطارفها ونجد نكهتها في أفواهنا وأسماعنا جميعاً). واختار أستاذنا الخطراوي في قراءاته لهؤلاء الشعراء منهم: «ابن بليهد، فؤاد شاكر، وعبد الحق نقشبندي، محمد هاشم رشيد، ماجد الحسيني، ومحمد فهد العيسى، حسن مصطفى صيرفي وغيرهم؛ من الشعراء الذين صحبهم وتناول أشعارهم بأدواته دراسة ونقدا وتحليلاً»! وسأتوقف مستعيناً بالله عند بعض الشعراء الذين اختارهم الدكتور الخطراوي؛ لدراسة أشعارهم وما كتب عنهم! فكتب في البدء قائلاً: في شهر سبتمبر من عام (1932 م) ولدت جمعية أدبية كان لها شأن كبير في دنيا الشعر وعالم الأدب؛ لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم العربي؛ لم يكن عملها قاصراً على إنشاء الشعر وممارسته؛ بل تعدته إلى تذوقه ونقده؛ وتدبيج المقالات الضّافية عن الشعراء الشباب آنذاك في العالم العربي؛ من السودان وتونس وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية؛ أمثال الأستاذ محمد العامر الرّميح الذي كان من أهم زملاء شاعرنا محمد هاشم رشيد؛ تلكم هي جمعية (أبولو) الأدبية؛ التي كان رائدها وصاحب فكرتها الدكتور أحمد زكي أبو شادي!. كان أبرز أعضائها شعراء ثبتت أقدامهم في أرض الشعر ومحاريب الجمال؛ وتأصلت عبقرياتهم في الفن والإبداع؛ من أولئك الشعراء: الدكتور ناجي والمهندس على محمود طه، اللّذين غنّيا الحياة والطبيعة والحب والألم والحزن في رومانسية حالمة؛ وتماوج من أوتار قيتارتيهما أرقّ الأنغام وأعذب الألحان! وكانت هناك روافد أخرى أمدت الشعر العربي بكثير من الطاقات المشعة والنماذج البرّاقة المتطورة، أفادت (جماعة أبولو) في تجديد معطيات الشعر الغربي الذي تواصل معه الشعراء المجددون؛ منهم الأخ محمد هاشم رشيد، من خلال ما ترجم من روائع القصائد لبعض الشعراء العالميّين وخاصة الفرنسيين!. إلى أن قال الدكتور الخطراوي: وشاعرنا محمد هاشم رشيد يمثل الوجه الرومانسي للشعر في هذه الديار؛ وهو صاحب ديوان (وراء السّراب)؛ الذي قدمه لقرائه عام (1952 م)، واستقبله عدد كبير من الأدباء والنقاد بكثير من الإعجاب والتقدير! ولشاعرنا الرشيد دواوين أخرى منها: (على ضفاف العقيق)، و(على أطلال إرم) و(في ظلال السّماء) و(على دروب الشمس)! تناول الدكتور الخطراوي قصائد محمد هاشم رشيد بالشرح وقال: (الذي يقرأ شعره تطالعه أحياناً من خلاله قسمات الشابي، وناجي، وعلي محمود طه؛ من ألفاظ موسيقية حالمة وعبارات مضيئة راقصة؛ وخيال مجنّح محلّق في أجواء عبقة بالحب ممزوجة بالشكوى والأنين، مدثّرة بالحيرة واليأس والإحساس الدائم بالحرمان، كما نجد عند شاعرنا التمرّد على القوالب الشعرية الرّتيبة وإن لم يخرج إلى شعر التّفعيلة! لا فراراً، بل اكتفى بتنويع القوافي وتوزيع التفعيلات في أسلوب الموشحات). هكذا يرى أستاذنا الدارس شعر محمد هاشم رشيد! فقد طبع في شعره على العفويّة المتكاملة في قصائده؛ لأنها تبدو قائمة في أكثر الأحيان على الروح القصصي! وهذا لا مناص له فيه من التلاحم والترابط العضوي المكين، كما عبر عنه الخطراوي! ومن نماذج شعره الحي اختار دكتورنا قصيدة للرشيد؛ كان عنوانها: (صوت الماضي)، قال فيها: أنا في الطريق أمشي على خطو القمر والأفق ينبض بالصور والليل يهمس بالذكر ويقول لي: حان المقر فهنا العقيق إلى أن قال: أملي بريق لم يبق منه سوى ضباب ورؤاي مهزلة السّراب وهواي أوهام الشّباب وأعود أصغي للعباب فإذا العقيق ويشرع الخطراوي نوافذ الصور المجنحة في هذه القصيدة التي يرى فيها نزعته التجديدية فيقول: «في شعر هاشم رشيد متنقل من صورة جميلة إلى صورة أجمل تملك عليك مشاعرك وتغرق حواسك كلها في جو صوفي ممتع لذيذ؛ وتجد نفسك أمام نماذج من التعبير المتدفق القائم على مناجاة الطبيعة وعرض مشهدها الفاغمة بالعطر والطيوب»، ويكمل الدكتور الخطراوي قائلاً: وفي سنة 1384 انتقل الشاعر من مسقط رأسه (المدينةالمنورة) ليعمل بصفة مؤقتة في الرياض بالإذاعة منذ افتتاحها، ثم يعود إلى المدينةالمنورة؛ فصور مشاعره في قصيدة بعنوان (الرياض)، منها قوله: كان حلما أن أراها فأرى دنيا هواها والتقيتا... أي حلم ضلّ من قلبي وتاها لم أكن أعرف أنيِّ كلّما أترعتُ دنِّي وتوهمت بأني لم أزلْ حَولّ حماها أملاً.. ضلّ وتاها إلى أن قال: ذكرياتي.. وحياتي قد تلاشت في الظلال عبر ألوان الجمال في الروابي والتلال وإلى أديبنا العواد: وينداح حديث الشعر والشعراء؛ عبر وقفة مع شاعرنا وأديبنا الكبير محمد حسن عوّاد، فنقرأ قول دارسنا:: (شاعرنا العواد فنان محلّق في سماء الأدب باجنحة النور وأحلام البلابل وبراءة الفراش؛ رسخت أقدامه على أرض الأدب في ثقة وثبات؛ وذهبت جذورها تناجي الأعماق وتمتد! وقال الناقد: (إنّ العواد من هؤلاء الأدباء الذين استطاعوا أن يحتفظوا بقوّتهم الشعرية مع ممارسته للنّثر بحثاً وفناً وكتابة في مختلف شؤون الحياة! فالعواد من هذه القلّة المحظوظة التي استطاعت أن تحفظ لنفسها المستوى الجيد في الفنين معاً! ومن أهم كتبه النّثرية (خواطر مصرّحة) و(نحو كيان جديد)، ومن دواوينه الشعرية (البراعم) و(أماس وأطلاس) و(أشعة الشروق)؛.. وهو شاعر يميل إلى مناجاة الطبيعة وعرض مشهدها الفاغمة بالعطر والطيوب». وتجلي مفاتنها والاسترخاء في أحضانها...). قال في قصيدة له «في حضن الطبيعة»: غادراني في الربا الفيح مليا صاحبيا واتركا نفحَة ريّا عطرها يسري إليا ودعاني هانئا فيها بأنسام الفضاء ويصف الكاتب شعر العواد قائلاً: (لم يصف العواد صوراً جامدة؛ ولم يقدمها مشاهد ثابتة؛ بل بعث فيها كثيراً من الحركة والحياة وأوجد بين بعضها تآلفاً وانسجاماً... واستلهم منها المعاني واستخلص الحكمة! وما أروع أن يحول الشاعر الطّبيعة كتاباً يقرأ؛ يملي الفكر ويلقي الموعظة ويعرض الفتنة والجمال). وقال الخطراوي: وشاعرنا العواد عبر (قصيدة (لقاء) جعل الطبيعة مسرحاً للقائه وكأنه يشركها في بهجته بلحظات اللقاء؛ ويجعل من اللقاء المسعد وشاحاً مكملاً للوحة الطبيعة! فيقول: أما تذكرين وقد ضمنا رداء الظلام بأعطافه وفي جانب الروض قد عمنّا رقيق النسيم بألطافه أما الطبيعة والمقلتان على موجب وعلى سالب لعلي أقول: إن هناك تقارباً وأشباهاً بين العواد وأبي ماضي إيليا، في قصيدته الشهيرة: (كم تشتكي) في ملامح الطبيعة التي تناولها، تشبه ما أنشده (إيليا) في ذلك الحين؛ ويشير الكاتب في حديثه عن العواد فقال: إن حرص الشاعر العواد على التجديد في هذه القصيدة من حيث التنويع في القافية شغله عن اختيار الصور وانتقاء الكلمات! فصورة (رداء الظلام) في البيت الأول صورة ندية بلّها القلم! كما أن الكلمات: اللطاف والموجب والسالب غضّت جميعها من سياق النص؛ مما جعلني أميل إلى أن هذه القصيدة من بواكير شعره. وقال كاتبنا عن أستاذنا محمد حسن عواد: (شاعرنا العواد فنان محلق في سماء الأدب بأجنحة النسور؛ وأحلام البلابل! رسخت أقدامه على أرض الأدب في ثقة وثبات؛ وذهب جذورها تناجي الأعماق)؛ ويضيف كاتبنا: إن العواد من هؤلاء الأدباء الذين استطاعوا أن يحتفظوا بقوتهم الشعرية؛ مع حماستهم للنثر بحثاً وفناً وكتابة في مختلف شؤون الحياة! فالعواد إذاً من هذه القلة المحظوظة التي استطاعت أن تحتفظ لنفسها بالمستوى الجيّد في الفنّين معاً! ومن أهم كتبه النثرية المطبوعة (خواطر مصرحة) و(نحو كيان جديد). وحملنا الدكتور الخطراوي على بساطه يطوف بنا في فيافي (شعراء من أرض عبقر)، فذكر منهم الشاعر محمد حسن فقي، حمزة شحاتة، أحمد قنديل، حسن عبد الله القرشي، سعد البواردي، محمد بن علي السنوسي، عبد السلام حافظ، محمد سليمان الشبل، سعد أبو معطي، عبد الله بن إدريس! ولعل القائمة ملأى... ولكني سأتناول من تلك المجموعة التي قدمها أستاذنا الخطراوي بضعة شعراء، ذلك أنني أخشى أن لا يسعفني الوقت فأنقل ما دونه قلم الدكتور الخطراوي من قراءته لأشعارهم! «إن الشاعر السيد محمد حسن فقي من رحاب مكةالمكرمة، وهو من الشعراء الطّلعة الكبار! وقال الدارس: هو من أبرز أبناء عبقر في هذه الديار؛ وهو من أكثرهم تحليقاً في سماوات الفن والإبداع! بدأ حياته مدرساً بمدرسة (الفلاح) بمكةالمكرمة، وتنقل في الوظائف الكبرى المختلفة؛ ولا يهمنا بالطبع أن نتحدث عن هذا الجانب من حياته؛ فليس ذلك من شؤون الأدب في شيء»... وأنا كذلك أرى ما رآه الكاتب الدارس! إذ ما يهمنا في هذا المقام ما تناوله الدارس من قراءة شعر الشاعر! ومضى الدكتور الخطراوي قائلاً: «للفقي شعر كثير مكوّن من عدّة دواوين؛ لكن ديوانه المطبوع (قدر ورجل)، كتب مقدمته الطويلة الأستاذ عبد العزيز الربيع. وللقارئ أن يلمس الحيرة والعطش في كل قصيدة منه! حيرة في نفس الشاعر نابعة من شقاء نفسي مستور لم يفصح عن مأتاه؛ وعطش دائم إلى الحقيقة والطمأنينة واليقين!». ونقرأ من شعر الأستاذ الفقي: قلت للأنجم المضيئة حولي أي نجم يضيء ظلمة ليلي سرمدي الظلام هذي دياجير ك تراكمن في فؤادي وعقلي إلى أن قال: واغتراب يحنّ للدار والأهل فيشقي بكل دار وأهل إن في وحدتي فراراً من الناس ولكنه فرار... المدلّ ونقرأ وقفة أو تحليل هذا الشعر لمؤلف مجموعة أشعار (من أرض عبقر)، فقال رحمه الله: «إن هذا النهج الذي تقرؤه في القصيدة السابقة وتجده في معظم أشعاره، هو نفسه الذي تلمسه عند أبي ماضي وجبران وغيرهما من (شعراء المهجر)؛ في شعر التأمل والحيرة والحنين! شاعرنا يحس بالظلمة في كل ما حوله؛ مع أن النور ضاف، ويشعر بالغربة بين أهله وخلاّنه! تماماً كما أحس بها أبو ماضي في قصيدته التي مطلعها: جعت والخبز وفير في وطابي والسّنا ضاف، وروحي في ضباب إن هذين الشاعرين بينهما قاسم مشترك في الغربة؛ إنّه غربة الرّوح وليس غربة الجسد». وأقف في ظل الشاعر (أحمد قنديل)؛ الذي كتب عنه المؤلف فقال: «هذا الشاعر يتخذ لكل موقف ما يناسبه؛ ويلبس لكل حالة لبوسها فهو ينظم الشعر الفصيح فيباري أقرانه وشعراء جيله؛ ويكتب الشعر (العامي) فيسابق أهله ويبزّ ذويه؛ ويسر أقواماً ويسيء آخرين». وقال الكاتب عن القنديل إنه كان ينشر بعض إنتاجه تحت توقيع: (الصموت الحساس)؛ وكلاهما من صيغ المبالغة!، وهو معروف بين أقرانه بقوة العارضة وامتلاك ناصية المجلس بحديثه المسترسل الآخاذ الذي لا يخلو من طرفة فكهة أو نكتة لاذعة! ويسترسل كاتبنا عن القنديل قائلاً: «فإنه من رفقاء الشاعرين الكبيرين محمد حسن عواد وحمزة شحاتة؛ درس معهما بمدرسة الفلاح بجدة، وتحمّل معهما أعباء المسؤولية الأدبية خلال نصف قرن أو يزيد! ولعلي أقول للتاريخ إن القنديل وقف إلى جانب (شحاتة) خلال المعركة الشعرية الشرسة التي بلغت القذى في الهجاء بين الشاعرين! وأنا لم أكن معاصراً لها، ولكني سمعت ذلك من معاصري تلك المعركة! وقال لي الصديق الشاعر السفير (محمد صالح باخطمة)، إن والده كان مدير شرطة مكةالمكرمة يومئذ؛ فقال للشاعرين في لهجة نذير ومنذر: إذا لم تتوقّفا عن هذا الأذى فسأزج بكما في (السجن) فتوقف هذا التهاجي»! ورأى كاتبنا أن القنديل يرمز إلى جانب فلسفي! يظهر ذلك بوضوح في قصائده؛ فينشد (دنيا الغد).. قائلاً: فيا حلم الفلاسفة المفذّى ومسعى الطامحين له استعدوا أطلّي بالسّلام على قلوب إليه - وقد يراها الشوق - تعدو وبالحب استفاض هوى وعدلا تساوى فيهما شعبٌ وفرد وقال صاحب الدراسة: «ومن السهولة بمكان أن نضع التّفسير المناسب لهذه الظاهرة الأدبية لدى القنديل وطبقته، كحمزة شحاتة ومحمد حسن عواد، وحسين سرحان! إنهم طبقة استطاعت أن تخرج بشعرها من قيود البديع وأغلال التقليد المسطري للقدماء»! هكذا يرى الكاتب شعر قنديل! فقد نظم عدة قصائد في الغزل والطبيعة وما إليهما من أغراض الشعر! وإنه ليدعو إلى التفاؤل في قصيدته (الشاعر الحزين)؛ قد ختمها بقوله: أيها الشاعر الحزين حَنَانيْك بنفس لا تستحقّ الشجونا طر بها في عوالم الأنس فالكون طروب - إن شئته - لا حزينا إلى أن قال: أيها الشاعر الحزين وما كنت حزينا، وما نرى أن تكونا