كم كانت دهشتي كبيرة أثناء عودتي من رحلة دبي، عندما شاهدت زوجين يدفعان عربة قد حملت ما لا يقل عن خمس شنط ! وتذكّرت حينها قول الكاتب الأمريكي لافكاليو هيرن: يكتفي الياباني بخمس دقائق ليجهز نفسه لرحلة طويلة؛ فحاجاته قليلة، وقدرته على العيش دون قيود وأثاث وبقليل من الملابس تجعله يتميز في هذا الكفاح في الحياة.. فأين نحن منهم؟ من يتأمل في الكثير من البيوت يلحظ حجم التكديس المخيف فالدواليب مليئة بالثياب، والمطبخ مكتظ بالأواني، والغرف تغطيها الأوراق والأقلام والحاجيات الشخصية... وتلك الفوضى والتكدس يعطلان العقل ويعيقان التفكير، من ( 5000) سنة والصينيون يمارسون مبدأً يسمّى (الفنغ شو) في الأماكن التي يشغلونها وهو علم الطاقة الانتقالية ؛ فهم يؤمنون بأننا نتأثر باستمرار بحالة العالم الذي نعيش فيه (حالة الطقس والأشخاص الذين نعاشرهم والأشياء التي تحيط بنا)، وهذا المبدأ الجميل يؤكد على أنّ ما يملأ حياتنا يؤثر بنا ويثيرنا ويغمرنا إما بالسعادة أو الحزن، وهي أمور شديدة الارتباط بنا شئنا أم أبينا ؛ لذا فحاجتنا كبيرة لحياة منظمة وبيئة مرتبة كبيرة وكبيرة جداً ! ولن أنسى مكتب ذلك الصديق الذي زرته ذات يوم فوجدت مكتباً عجيباً في كل مكان ورقة وفي كل زاوية مجلة وعلى كل رف جريدة، وعندما نبهته أكد لي أنه لم يلحظ أبداً تلك الفوضى في مكتبه ! وتفسير هذا أن البشر مع المداومة يألفون الشيء والعقل لا يستطيع الملاحظة مع الألف وهذا يعود إلى ( كيمياء الأعصاب) ;كما يوضح العالم الأديب المفكر مصطفى محمود بقوله ( إنّ أعصابنا مصنوعة بطريقة خاصة تحس باللحظات الانتقال ولا تحس بالاستمرار . حينما تفتح الشباك فجأة تسمع دوشة الشارع تملأ أذنيك.. ثم تخف الدوشة شيئًا فشيئًا حينما يستمر صخبها في أذنك... حينما تركب الأسانسير تشعر به في لحظة تحركه... وفي لحظة توقفه.. أما في الدقيقة الطويلة بين اللحظتين فأنت لا تشعر به لأن حركته تكون مستمرة... حينما تعيش متمتعًا بصحة مستمرة لا تحس بهذه الصحة.. ولا تتذكرها إلا حينما تمرض!!) وقد كان قرة العين محمد اللهم صل وسلم عليه، يمثل البساطة في أجمل صورها وأروعها، فقد كان يأكل القليل والبسيط من الطعام ولا يملأ معدته. وكانت الأيام تمر على بيته لا تشعل فيها النار ، وكان ينام على فراش متواضع على الأرض. ولم يكن لدى الرسول صلى الله عليه وسلم ثياب كثيرة، بل ملابس محدودة كان يغسلها بنفسه. ولم يكن لديه أي وسيلة من وسائل الراحة أو البهرجة داخل بيته البسيط. (ومَا ترَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً). لقد عاشَ محمد (صلى الله عليه وسلم) هذه الحياةَ الشظِفَ حتى الممات، بالرغم من أنّ بيت مال المسلمين كَان تحت تصرّفه! ما أروع حياة البساطة في كل شيء ومن أراد حياة البساطة (الجميلة) عليه أن يختار ؛ وربما كان الاختيار مؤلما عليه أن يتخذ قراراً صعباً بالتخلص من تلك (الأكوام) التي تحيط به ؛ أكوام الملابس وأكوام الأوراق وأكوام الأواني وأكوام الذكريات السيئة وأكوام التجارب السلبية وأكوام الخبرات غير المكتملة ؛ التحدي الكبير ليس في التخلص من تلك (الأكوام) وإنما في اتخاذ القرار في التمييز فيما هو مفيد وما هو غير مفيد؛ إنه ذلك الشعور المؤلم بالانفصال عما ألفنا واعتدنا.. ولكن يا لها من راحة جميلة وشعور بالسكينة عندما نفعل ذلك ! والبعض ربما يستثقل التخلص من قبل الأشياء من باب أنه تبذير، وأقول: إنّ عين التبذير هو الإبقاء على أغراض لا تحتاج لها وهناك من يتمناها، ومن عدم الحكمة التفكير في أمور لا يد لنا ولا حيلة في تغييرها! إن التكديس عبء مزعج وحمل ثقيل والسلع وكذلك فإن الأفكار كثيرة وكثيرة جداً وتغزونا في كل زمان ومكان وتواجدها غير المنضبط في حياتك يعيق حركتك كثيراً بل ومآل فكرة (البحث عن الكثرة) ومبدأ (تراكم الأشياء) هو القلق والملل والارتباك، فلا تجعل من نفسك عبداً مملوكاً لتلك الأشياء بل كنت أنت المالك لها وتخلص مما لا تحتاج، وقبلها ضع لك معايير وحدوداً لرغباتك الشخصية وما تحب وما تحتاج من أشياء ؛ ملابس وكتب وأماكن تأنس وتسعد فيها ! وسنواصل الحديث عن خطوات عملية في الأسبوع القادم تجعل من حياتك سهلة مريحة فكن معي. ومضة قلم سرّ السعادة الحقيقية يتمثّل في القدرة على الاستمتاع الكبير بالأشياء الصغيرة!