مع تحولات العالم وتسارع نبض التحضر والحواجز الأسمنتية العالية التي أصبحت تبنى بدواخلنا قبل أن تقام على الأرض لتغير من معالم مدننا..أصبحنا نشعر بأن القرى والضواحي التي بأعماقنا بدأت تتقلص لتتحول إلى مدن لكنها بوجه يرقب المزيد من كل هذا التسارع المهول الذي أصبح يسكن العالم..ففي كل يوم يمر يكبر فيه مخترع ويتطور فيه تلميذ في الصف، ويشيخ فيه رجل طويل القامة ، تزيد اهتماماتنا، ويتصاعد بداخلنا الهم الحياتي ويستدير في العمق الكون فتستدير معه الأشياء..كل الأشياء..حتى قيمنا وما نؤمن به، أصبحنا جزءا من عالم ممتد، يداه طويلتان جدا حتى لم نعد نقوى على مصافحتها أو العبث بأصابعها، وساقاه قصيرتان حتى لم نعد نعرف أن نقارنهما بتمدد ساقي الهم اليومي في قلوبنا. تغير الحياة الصفاء الداخلي يستدعي التصالح مع الذات والصدق والتسامح تغيرت كثيرا الحياة من حولنا..كل شيء أصبح يبعث على التسلية، والتنوع، والدهشة من وسائل تقنية واتصال وتمدن ووفرة أسواق فخمة ومقاهي شاسعة تغازل فينا ارتشاف قهوة متمدنة أيضا لاتشبه أبدا طعم قهوة «أمهاتنا» وبالرغم من جميع تلك المغريات وعلى ذلك القدر من التسارع والتنقل المخيف والسريع بين مراحل التطور... لكننا نشعر بالملل ؟! بأن هناك شيئا مفقودا... بالفتور الذي برغم انشغالاتك لكنك تقف في زاوية...هناك بعيدا لتسأل نفسك...لماذا أنا متململ ؟ لماذا لاأشعر بالامتلاء والانطلاق...لماذا أنا في حالة ملل دائمة...؟؟ متشعب وكبير ياله من سؤال برغم بساطته لكنه متشعب وكبير وصعب جدا تفكيكه !! السأم لايسكن البيوت معنا...ولايقاسمنا طعامنا وشرابنا .. ولا يخرج معنا بعد أن يتأنق بنوع فخامة معطفنا حينما نهتم أن نتأنق لوجه النهار...هو ليس ظلا يرقبنا ، يتشبث بنا لأنه يخطط أن يفسد علينا تفاصيل اليوميات المتعددة... لكنه الملل الممتد من حكايات لايمكن أبدا أن يفسرها أحد . إنه بذواتنا ، فكلما زادت جرعة التأمل لديك ، وبدأت في محاولة سرقة الاستمتاع والرغبة في التغير بتبديل الأماكن التي أعتدت على زيارتها ، وبتبديل الأشخاص الذين في كل يوم تلتقيهم وبتغيير نوع الطعام الذي تأكله على وجبة الغداء ، وبالخروج عن سطوة الوقت المنظم والعبث بساعاته ليكون هناك تغيير .... فإنك - حتما - ستشعر أيضا بالملل .. حتى تحول الملل إلى ماركة مسجلة على جبين نفسياتنا .. فلماذا - ياترى - نمر بحالات نمل فيها كثيرا من كل شيء؟ الفراغ العاصف إننا نسأم لأننا أصبحنا مشغولين جدا حد السأم ، مشغولين حد الفراغ العاصف الذي يحيط بنا .. فأنت لاتعاني من الفراغ حينما لاتعرف ماتفعله ... لكنك تسأم - حقيقة - حينما تجد نفسك مشغولا جدا حد الفراغ الداخلي... ربما لذلك كان - الأجداد - في السابق « قبل حياة الترف والتمدن لايشعرون بالسأم ... لأن الملل لايأتي حينما تصاحب الأرض الصحراء لتزرعها وحينما تكون مهووسا بتربية نبته صغيرة ستنمو قريبا .. إن القرب من الطبيعة والاقتراب من الحياة العفوية يستدعي حالة من الصفاء الداخلي .. والصفاء الداخلي يستدعي التصالح مع الذات ، والتصالح مع الذات يستدعي الصدق والصدق يستدعي التسامح والتسامح يستدعي السماح لكل من حولك أن يقتربوا منك، لأنهم يعيشون في ذات الفضاء الذي تحلق فيه ... من منطلق ثقافة البساطة والعفوية الناتجة من وعي فهم الحياة والارتباط بها بشكلها العميق وليست السذاجة التي تبنيها الاستحداثات والتطوير الدائم في شكل البنايات واستقامة الأرصفة....ربما لذلك.. تكتشف بأن ابن القرية لديه فضاء واسع بداخل رئتيه يتنفس من خلاله ... فمازال يمارس الحياة بشكلها الجميل ... يعمل ثم يرتشف قهوة زوجته التي تطبخها له بمسمار الوداعة .. ثم يخرج مع جاره إلى مجلس الحي ، يلتقي بأبي صالح الرجل السبعيني الذي يحتضن الراديو والفناجين القابعة في إناء الماء وبضع تمرات اختارتها له بعناية أم صالح ... الحياة بذلك القدر من البساطة...كم هي مريحة. تعقيدت الحياة نسأم كثيرا كلما كان التعقيد في الحياة كبيرا ... والتعقيد هنا لايعني فقط التمدن أو شموخ المجمعات التجارية وكثرة عدد المقاهي ، بل التعقيد هنا أن تجد كل شيء حولك مهما كان صغيرا يحمل « عقدة « الكينونة التي تجعل منه صعب الاختراق ... فنحن يصعب علينا اختراق جار ، وأصبح صعب علينا اختراق أخ ، وصعب علينا اختراق صديق ، حتى كأزواج أصبح صعبا علينا اختراق عالم الزواج ، والاختراق هنا ... أن تدخل لعالم الشيء وتجرب أن تلمسه بإصبعك ، وأن تدس بداخله « وردة « وأن تجرب أن تستوعبه وتفهمه ثم تحبه كثيرا حتى تخلص له ... أصبح صعبا علينا أن نخلص ... الإخلاص أصبح باهض الثمن ، باهض حد أنك أصبحت تخشى أن تجرب « الاختراق « لأنك تخشى أن لاتخلص يوما ، كل شيء تشابك في حياتنا ، أصبح شديد المتانة كحبل مطوق حول أعناقنا ... وحينما نجرب أن نفكه نجده يلتف حول أحواضنا فيدهس ذواتنا فيه ... صعب جدا في إطار هذا السأم أن تبدده بالقتال من أجل ماتؤمن به في الحياة ... صعب أن تكون أنت ، وأن تحتفظ بوجهك الحقيقي دون أن تخفيه بأقنعة « مزيفة « متناقضة تخبئها بداخل جيوبك لتمررها حول عينيك التي أصبحت تنظر لكل الأشياء على أنها وسيلة سهلة للانتصار على السأم ، والتغلب على سطوة الخوف من الملل الدائم الذي يزورنا في أكثر المواقف أهمية. انعدام القيم ماأجمل أن لانسأم .... ولكن الأروع أن نسأم من رداءة مواقفنا ، وانعدام القيم لدينا جرب أن تخلع نعليك عند الرصيف وامش حافيا ، جرب أن تمد يديك عاليا إلى السماء وانظر للأفق حتى في الليل ... جرب أن تقرر ... قرارا واحدا فقط ... ليلة واحدة .. أن تتحرر من جسدك ، وأن تصاحب روحك ... كن كما أنت ... دون قيود ، دون تحفظ من الآخرين ودون أن تخشى الانتقاد من أحد المارة ... لاتفكر كثيرا في العابرين .. ركز فكرتك على الذات ، تحدث معها بصوت مرتفع ... أرقص في الشارع ، واقفز فوق سور الحديقة ، ودس رأسك تحت صنبور الماء ثم جرب أن ترمي بقطعة نقود ثمينة عاليا ... وتخيل بأنها قد يلتقطها أحدا ما بحاجة إليها ، ثم مارس طيش الضحك وتوقف قليلا وعاتب نفسك ... لكن لاتنس أن ترحمها ...اخرج من السأم الذي يزورك ليقول لك ... تغير ... إلى متى وأنت في مكانك .. ؟!