لم تزل لغة القرآن الكريم وبلاغته وأساليبه محل عناية أهل العلم منذ الصدر الأول، ولم يزل درسهم لها في تعاقب واتساع بالتوازي مع تدوين العلوم وتقعيد الفنون، ولا سيما علوم اللسان وفنون البلاغة، إلى أن أسلم ذلك التراث اللغوي البلاغي الثرّ أزِمّتَه إلى فارس من أبرع فرسانه، هو العلامة الأديب البلاغي المفسر المتفنن جار الله محمود بن عمر الزمخشري الحنفي المعتزلي (ت 538 ه)، رحمة الله عليه، فأودع خلاصة جهوده البلاغية في كتابه الفذ «الكشاف عن حقائق التنزيل»، الذي طار كل مطار، ولم يزل قبلة الدارسين للبلاغة القرآنية حتى يوم الناس هذا. وعلى الرغم مما شحن به الزمخشري كتابه المذكور من مذاهب أهل الاعتزال، والغمز لمذهب أهل السنة، إلا أن ذلك لم يصرف عنه أعنة الواردين، العارفين بنفائس مكنوناته، متدرعين لرد عادية اعتزاله بشروح جهابذة أهل السنة عليه على توالي الأدوار، فقد كانت تلك الشروح مرهم علله، والواقيات من مواطن زلله. وكان من أنفسها وأجلها الحاشية الحافلة التي كتبها الإمام المحدث المفسر البلاغي المحقق شرف الدين الحسين بن عبد الله الطِّيبي الشافعي (ت 743 ه)، الموصوف بأنه «آية في استخراج الدقائق من الكتاب والسنن»(1)، تغمده الله بواسع رحمته، وقد وسم حاشيته هذه ب»فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب». ولسان السابقين باسط في الثناء على حاشية الإمام الطِّيبي هذه، وقد خلد ابن خَلدون ذكرها بقوله في «مقدمته» الشهيرة: «وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيها كتاب الزمخشري هذا، وتتبع ألفاظه، وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيّفها، وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة، وفوق كل ذي علم عليم»(2). أما الحافظ المِدْرَه أبو الفضل ابن حجر فقد قال: «شرح - الطِّيبي - «الكشاف» شرحًا كبيرًا؛ وأجاب عما خالف مذهب السنة أحسن جواب، يعرف فضله من طالعه»(3). وبالغ في الثناء عليها من أهل الزمان الآخر قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني حين وصفها بأنها «أنفس حواشي الكشاف على الإطلاق»(4). ومما تبتهج به نفوس أهل العلم وطلابه أن هذه الحاشية النفيسة قد برزت إلى دنيا المطبوعات هذا العام بحمد الله ومنته، في حلة قشيبة من سبعة عشر مجلدًا، محققةً تحقيقًا علميًّا جيّدًا، مذيَّلة بفهرسة علمية كاشفة للكشاف وحاشيته جميعًا، تمكن القارئ من الوصول إلى بغيته منهما بيسر، وتجلو ما في طيات هذين السفرين الجليلين من مكنونات. وقد حيز لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم فضل إخراج هذا العلق النفيس، وهي المؤسسة التي لها الأيادي البيضاء في نشر كثير من الدراسات العلمية الجادة المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه. وقد حظي الكتاب برعاية خاصة من رئيس وحدة البحوث والدراسات فيها، صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء حفظه الله، وكان لكاتب هذه السطور شرف جمع أصول الكتاب وتنسيق أعمال الفريق العلمي الذي قام على تحقيقه، وقامت على طبعه (أروقة للدراسات) بالأردن، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ** ** ** الهوامش: (1) الدرر الكامنة (2-186). (2) مقدمة ابن خلدون (1-556). (3) الدرر الكامنة (2-186). (4) البدر الطالع (1-229).