عرف الكثيرون أبا حنيفة النعمان فقيهاً كبيراً، صاحب مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة الشهيرة، لكنهم لم يعرفوا أبا حنيفة المتكلم، المنظّر لقضايا العقيدة وأمورها، على شاكلة المعتزلة والجهمية وعلماء أهل السنّة، المتبحرين في هذه المسائل الشائكة! وتعتبر مخطوطة كتاب «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة النعمان من الكتب الأوائل التي وضعت قواعد وأصول هذا العلم الشريف، الذي موضوعه هو ذات الله سبحانه وتعالى، ثم سار على منواله وأكمل مشوار هذا العلم، تنظيراً علماء الفرق والنحل، من بعده. ويؤكد الدكتور خميس سبع الدليمي في كتابه الجديد «الإمام أبو حنيفة، ومنهجه في الفقه الأكبر» الصادر عن مركز البحوث والدراسات الإسلامية في العراق، في 230 صفحة من القطع المتوسط، أن أبا حنيفة «بدأ حياته العلمية بدراسة «الفقه الأكبر» (المسائل الاعتقادية) وله في هذا الجانب دراسات موثوقة، وعني بعلوم الحديث، وكان له مُسند فيه». وشكك البعض من العلماء «في نسبة كتاب «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة، فيما نسب كثيرون من المحققين الكتاب كحاجي خليفة في كشف الظنون، والنديم في الفهرست، واسماعيل باشا في هدية العارفين، وذكره الكردري في المناقب، فقال: «فإن قلت ليس لأبي حنيفة كتاب مصنف، قلت: هذا كلام المعتزلة، ودعواهم أنه ليس في علم الكتاب «الكلام» تصنيف. وغرضهم بذلك نفي أن يكون كتاب «الفقه الأكبر»، وكتاب العالم والمتعلم له، لأنه صرح فيه بأكثر قواعد أهل السُنّة والجماعة، دعواهم أنه كان من المعتزلة، فإني رأيت بخط العلامة مولانا شيخ الملة والدين الكردري العمادي هذين الكتابين، وكتب فيهما أنهما لأبي حنيفة، وقد تواطأ على ذلك جماعة كثيرة من المشايخ» كما يورد المؤلف. وقال صاحب كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» ما قيل في الفقه الأكبر من أنه ليس للإمام أبي حنيفة، فمن اختراعات المعتزلة، زعماً منهم أن أبا حنيفة على مذهبهم، والحقيقة أن «الفقه الأكبر» هو للإمام أبي حنيفة، لهذا نرى ترجيح نسبة هذا الكتاب لأبي حنيفة». ومخطوطة الكتاب صغيرة جداً، وهي في التوحيد والعقيدة، ولا تتعدى الورقات الست، وتشتمل على مسائل كثيرة، بين أبو حنيفة فيها رأيه بصورة موجزة. والإمام لا يستدل بالكتاب ولا بالسنّة ابتداء، للتدليل على ما يقول، وإنما يحمل رأيه في كل مسألة للرد على الفرق من معتزلة وخوارج وغيرهما، كما يقول الدكتور خميس الدليمي. ومنهج أبي حنيفة هو منهج السلف، وقد عالج في المخطوطة مسائل عدة منها: مسألة الصفات الذاتية لله تعالى، ورأى أنه يثبت لله تبارك وتعالى صفات المعاني: «الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر، فالله تعالى لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته لم يحدث اسماً ولا صفة، لم يزل عالماً بعلمه، والعلم صفته في الأزل، ومتكلماً بكلامه، والكلام صفته في الأزل»، وهو بذلك ينتهج طريق أهل السنّة خلافاً لما ذهب إليه المعتزلة. وعن مسألة خلق القرآن يقول أبو حنيفة: «القرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مُنزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتاباتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق». وعن مسألة الإيمان، يرى أبو حنيفة أنه إقرار وتصديق، فيقول: «فالتحقيق باللسان، والتصديق بالجنان وفق التوفيق، وتقديم الإقرار للإشعار بأنه الأول من مقام الإظهار، وإن كان هو المبدوء به في حال الاعتبار». وحول مسألة الشفاعة قرر أبو حنيفة هذه المسألة طبقاً لما ورد في الكتاب والأخبار المأثورة، وأثبت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم بكل أنواعها، وخالف مُنكري الشفاعة، حيث جاء في «الفقه الأكبر» قوله: «وشفاعة النبي (ص) للمؤمنين المذنبين ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت». ويقول الدليمي إن أبا حنيفة ذهب في مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة سابقاً للأشاعرة والماتريدية، بتقرير أهل السنة والجماعة، حيث يقول أبو حنيفة في مخطوطة «الفقه الأكبر»: «والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم، بلا تشبيه ولا كيفية، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة». وذهب أبو حنيفة في مسألة المعجزة والكرامة إلى أن «الآيات ثابتة للأنبياء (المعجزات) والكرامات للأولياء حق، وأما التي تكون لأعدائه مثل إبليس وفرعون والدجال مما رُوي في الأخبار أنه كان ويكون لهم، لا نُسميها آيات ولا كرامة، ولكن نُسميها قضاء حاجات لهم، وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجاً لهم وعقوبة». وحول مسألة خلق الجنة والنار وبقائهما، يرى أبو حنيفة أن الصواب هو مذهب أهل السنّة الذين أجمعوا على أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن عذابهما ونعيمهما لا يفنينان لقوله تعالى: «وجنة عرضها السموات والأرض» والإعداد صريح بثبوت الشيء وتحققه، والمعدة والعرض لا يكون إلا ثابتاً مخلوقاً». يذكر أن كتاب «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة توجد منه تسع نسخ مخطوطة، في مكتبات العالم، وقد تُرجم إلى لغات عدة، وقد نظمه بعضهم نظماً، وطبع أكثر من مرة في الهند عام 1289 ه، والقاهرة عام 1905م، وبيروت عام 1976م، وشُرح شروحاً كثيرة، منها: شرح أبي منصور الماتريدي المتوفى 333 ه، وهو مطبوع في الهند عام 1946م، وشرح المغياوي أتمه عام 939 ه، وهو مطبوع في الهند أيضاً، وشرح علي القاري المتوفى عام 1014 ه، وهو مطبوع في الهند عام 1890م، وفي القاهرة عام 1905، 1909م.