وصفت داعية ومتخصصة في تعليم القرآن الكريم وعلومه، سوء الظن بأنه بذرة خبيثة للفرقة والعداوة وله آثاره المدمرة على المجتمعات وترابطها، والظن حديث قلبي، قد يتعداه إلى حديث اللسان.. وكلاهما لا يقل خطرًا عن الآخر. وقالت نجلاء بنت عبدالعزيز الرشيد المحاضرة بمعهد مكة لإعداد معلمات القرآن الكريم بمنطقة الرياض في مستهل حديث لها ل»الجزيرة» عن سوء الظن: إن سكوت القلب أمر يغفل عنه كثيرون؛ ظنًا منهم أن السكوت إنما يكون باللسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) رواه البخاري «فكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئ أخيك، يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن به؛ فسوء الظن غيبة بالقلب فلا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكنك أن تحمله على وجه حسن» (الغزالي في الإحياء)، فسوء الظن بذرة خبيثة تفسد كل ما هو طيب وجميل، فأعظم ما يدعو للترابط والمحبة: السلام، الابتسامة؛ إذا كان محفوفًا بسوء الظن سيفسّر استهانة واستهزاء؛ وما ذلك إلا لخبث الباطن.. فإنّ كل من رأيته سيئ الظن بالناس، طالبًا لإظهار معايبهم؛ فاعلم أن ذلك لخبث باطنه، وسوء طويته؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير؛ لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب؛ لخبث باطنه، وإن كان سوء الظن بذرة، فقد تنمو يوما لتكون شجرة يصعب اجتثاثها؛ ذلك أن الظنون لن تعدُ حديث نفس مع مرور الوقت بل قد تتعداها إلى تتبع فتجسس فغيبة واتهام ثم قطيعة وشقاق، وكلها ثمرات ذات سم يفتك بوحدة المجتمع وترابطه، يقول ابن قدامة رحمه الله : «اعلم أن من ثمرات سوء الظن التجسس؛ فإن القلب لا يقنع بالظن بل يطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، وذلك منهي عنه؛ لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم، ولو لم ينكشف لك؛ كان قلبك أسلم للمسلم « وأضافت نجلاء الرشيد قائلة: والمتأمل لآي القرآن يجد ذلك واضح؛ فلقد نهى سبحانه عن التجسس والغيبة بعد نهيه عن الظن،كما أنه سبحانه نهى عن كثير الظنّ لشدة الإفساد ببعضه. فقال جل شأنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}، قال ابن عاشور رحمه الله : «والظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرًا من اعتداء مظنون ظنًا باطلاً، كما قالوا: (خذ اللص قْلَ أن يَأخُذَك)، فالانسياق وراء الظنون والشكوك، له آثار مدمرة على المجتمعات، فهي تعمل على توهين الصف المسلم بنشر الإشاعات، وأحياناً تكون هذه الإشاعات موجهة إلى رموز الخير ممن لهم في النفوس مكانة وتقدير؛ فتحدث البلبلة، والشقاق, وعندها يرقص الشيطان؛ فرحاًَ على أشلاء وحدتنا؛ وتضعف الثقة في أهل الدعوة وأهل الإصلاح والتوجيه، وإن كان سوء الظن محرما على الإطلاق إلا أنه بالقريب أشد إثما وجرما منه بالغريب؛ كسوء الظن بين الزوجين، أو بين الآباء وأبنائهم، فثمّة طائفة من هؤلاء تعودوا على سوء الظن معتبرين ذلك نوعًا من الفطنة والذكاء أو من التربية القويمة؛ فتجده يفتش ويراقب إن كان زوجًا على زوجته كل حركة ويتجسس عليها، وكذا الآباء مع أبنائهم مما أفقد الثقة والألفة بينهم. بل إن محسن الظن عند هؤلاء ساذج غافل وقليل الغيرة في نظرهم. بينما المطلوب أن يعتدل الرجل سواء كان زوجًا أو أبًا في الغيرة؛ فلا يتغافل عما تخشى عواقبه، ولا يبالغ في إساءة الظن، والتعنت، والتجسس. وبالجملة فالتحسس والمبالغة في الغيرة أمر لا يقره دين ولا عقل؛ ولهذا عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً قال فيه: باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة؛ مخافة أن يخَوِّنهم، أو يلتمس عثراتهم. وإذا كان على المسلم البعد عن الأزمنة أو الأمكنة التي قد تدعوه لسوء الظن؛ فإن عليه أيضا أن يدفع عنه سوء الظن إن وقع في أمر يستراب منه، وولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حينما قال للرجلين -اللذين أسرعا عند رؤيته صلى الله عليه وسلم مع زوجته -في الحديث الصحيح: «عَلَى رِسْلِكُمَا. إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئًا». ومما جاء في شرح هذا الحديث: أنه لا ينبغي للمسلم أن يُرى حيث تقع في أمره شبهة وتتوجّه عليه تهمة ولو كان عند نفسِه بريئا، وعما يُرمى به بعيدا. فليس الإنسان يعيش في هذه الدنيا لنفسه بل يعيش لنفسه ولإخوانه، وإذا تعرّضَ للتُّهم خسر نفسَه وخسر إخوانَه وأدخل على نفسه البلاء منهم وأدخل البلاء عليهم به، فكانت مصيبته على الجميع وضرره عائدا على الإسلام وجماعة المسلمين خصوصا إذا كان المرء ممن يُقتدى به ويُرجَع إليه، فإن زوال الثقة به خسارةكبرى وهدم لأركانِ الدين وتعطيل لانتفاع الناس بالعلم وانتفاعه هو بعلمه، وإذا وقف الإنسانُ موقفاً مشروعا وخاف أن تتطرق إليه في خواطر الناس شبهة كان عليه أن يُبادر للتصريح بحقيقة حاله والتعريف بمشروعية موقفه. وليس لأحد، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغترَّ بمنزلتِه عند الناس فلا يبالي بما قد يخطر لهم. بل ذو المنزلة أحقّ بالتبيين والتصريح لعظيم حاجة الناس إلى بقاء ثقتهم به وتوقّفِ استفادتهم منه وقيامه بما ينفعهم على تلك الثقة، قال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله -: (في الحديث دليلٌ على التحرّز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي. وهذا متأكَّد في حق العلماء ومن يُقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظنَّ السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم). واسترسلت الأستاذة نجلاء تقول: ولخطورة سوء الظن وما يحدثه من أثر؛ فقد أكد الشارع الحكيم على ضرورة اجتنابه. فجاء التحذير منه في كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ قوية، ففي القرآن ورد النهي عنه بلفظ «اجتنبوا»، وفي السنة بلفظ «إياكم». وكلها تدل على عظم المحذر منه ؛فسوء الظن مجمع لغرائز السوء، والتي دائماً ما يسعى الشيطان إلى تنميتها في قلوب المسلمين فهي السبيل له ليغرس بذور الخلاف والكراهية بين أبناء المجتمع الواحد. وطالبت المسلم أن يربأ بنفسه عن سوء الظن، وأن يتعامل مع الناس وفق ما يرى ويسمع، وحسبه ذلك، حتى يتمكن من تطبيق المثُل كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلحق ذلك بالرؤية السليمة التي عبر عنها الصحابة، ومن بعدهم من السلف الصالح، فلقد نأوا بأنفسهم عن هذا الخلق الذميم.فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً، وأنت تجد لها في الخير محملا»؛ لأنّ المسلم الأصل فيه أنه لا يريد بأخيه المسلم إلا الخير، فإذا صدرت منه كلمة أو موقف أو تصرف يحتمل احتمالات كثيرة، الخير واحد منها فعليه أن يحمله على الخير.قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله : «اتقوا ظن المؤمن؛ فإن الله جعل الحق على لسانه وقلبه « وعن الحسن رحمه الله : «كنّا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت، وظن في الناس ما شئت». وخلصت إلى القول: إننا اليوم في زمن الفأل بأن في الأمة الخير الكثير، إننا في زمن الجهاد؛ جهاد النفس في إحسان الظن بالناس وخاصأرحامنا وولاتنا وعلماءنا، فحسن الظن مطيتنا لعزنا ومجدنا،وألفتنا ووحدتنا.