ثروة محمد أحمد الرشيد ليست ما تركه من مال ولا عقار فذلك ليس له، ولا تهبط معه إلى قبره وإنما كانت ثروته الحقيقية التي يقابل بها ربه محبة الناس له وذكرهم له بالخير. للموت رهبة وجلالٌ، ولكننا لا نشعر برهبة الموت وجلاله إلا عند موت الأحباب والأعزاء والعظماء، فنقف من الموت موقفًا عجبًا كأننا نستبعد الموت عمّن نُحب ناسين أنَّه قد مات قبلهم الرُسل والأنبياء. موت من نُحب يجعلنا نبحث عن الأسباب للسلوى وتعزية النَّفْس بأن المرض أو كبر السنِّ هو سبب الموت. لهذا تكون صدمتنا أكبر في من يموت فجأة دون سابق إنذار بمرض. والحقيقة أننا عندما نثوب إلى رشدنا بعد الصدمة نتذكَّر قول ربنا عزَّ وجلَّ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }، وقوله سبحانه {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ . هكذا كانت الصدمة: هكذا كانت الصدمة بوفاة المفكر التربوي معالي وزير التربية الأسبق الدكتور محمد أحمد الرشيد مساء السبت. لم يكن -رحمه الله- يشكو مرضًا، بل كان من أكثر الناس حرصًا على صحته، منتظمًا في الرياضة اليومية حريصًا على اللياقة البدنية والاستجمام الصحي في الخارج من حين لآخر. في ليلة وفاته استقبل ضيوف ندوته الأسبوعية التي تنعقد بمنزله بعد صلاة المغرب كل يوم سبت. كان طبيعيًا معافى، بل كان أكثر مرحًا ولم تظهر عليه أية بوادر ألم أو تعب أو مرض. ودع ضيوفه جميعًا كالعادة بعد صلاة العشاء، ثمَّ دخل على أهله ليرتاح وكانت معه السيدة حرمه أم أحمد. شعر ببوادر ألم يسميها الأطباء بوادر نوبة قلبية وهي في حقيقة الأمر بادرة دنو الأجل. وما هي إلا دقائق وربما ثوانٍ حتَّى صعدت روحه إلى بارئها في تمام التاسعة وخمس دقائق. تنادت الأسرة كلّّها وهب أبناؤه البرّرة يلتفون حوله، وسارع نجله الأكبر أحمد بمحاولة تدليك القلب دون جدوى فحملوه إلى المستشفى في ذهول غير مصدقين أن قدر الله قد نفذ. وفي المستشفى كان لا بُدَّ من مواجهة الحقيقة المهولة التي أجمع عليها الأطباء. نعم مات محمد أحمد الرشيد راضيًا مرضيًا برحمة ربه. ونظر إليه كل من كان حوله فبدا لهم مستريحًا بملامح مبتسمة كأنه يغط في نوم عميق. وما كان للطبِّ معالجة قضاء الله وقدره. انتقلت روح محمد أحمد الرشيد إلى جوار ربٍّ رؤوف رحيم مساء السبت 20-1-1435ه الموافق 23-11-2013م قبل أن يَتمَّ الثالثة والسبعين من عمره رحمة الله عليه. كان -رحمه الله- قد عاد من حائل صباح الجمعة، بعد أن قضى بضع ليالٍ في براريها، وحثّ في آخر تغريدة أطلقها قبل وفاته بساعات على الكرم والإنفاق في أوجه الخير، ونبذ البخل، إِذْ قال: (يا لحماقة بعض الموسرين، يقتر على نفسه في الدنيا ليثري وريثه من بعده ولو أنّه سأل وريثه يوم القيامة حسنة واحدة لرفض الوريث طلبه). مرارة الموت وحرقته وفجيعته: كان الصدمة كبيرة على كلٍّ محبيه في كلِّ أنحاء المملكة وخارجها وكانت أكبر على الذين كانوا معه في ندوته ليلة وفاته. وبالرغم من أن خبر وفاته قد أعلن عبر قنوات التواصل الاجتماعي ليلة وفاته، إلا أنني لم أعلم بالخبر إلا في السابعة صباح الأحد عندما أرسل لي الصديق د.محمد بن إبراهيم الأحيدب رسالة بالخبر. لم أصدق ما قرأت، ولم أثق فيما رأت عيناي فاتصلت فورًا بنجله الأكبر الأستاذ أحمد بن محمد الرشيد وقلت له بصوت يتهدج: هل صحيح أخي أحمد؟ فقال: نعم. كنت وقتها في مخبز مجاور لنا، وبالرغم من وجود الناس فيه لم أتمالك نفسي وانفجرت في نوبة بكاء أثناء حديثي معه وسالت دموعي غزارًا، ولم انتبه للناس الذين بدؤوا ينظرون إليَّ بعجب وتساؤل وفضول.. كنت أبكي المروءة وحُسن الخُلق وخصالاً أصبحت نادرة هذه الأيام.. هرولتُ إلى سيارتي وقد غطت دموعي وجهي وحجبت عني الرؤية، ولكن من حسن حظي أني كنت على مقربة من بيتي. ولا أذكر أني بكيت أحدًا من أصدقائي ومعارفي المقربين بهذه الحرقة قط. فلا يوجد ما أقسى علينا من الموت إلا تذوق مرارته وحرقته وفجيعته برحيل من نحب. لم أذق مرارة الموت وحرقته وفجيعته منذ سنوات طويلة إلا صبيحة علمي بخبر وفاة محمد أحمد الرشيد. أذكر اسمه كما كان يُحب أن يُذكر مجردًا من الألقاب، فهو لا يحب أن يسبق اسمه لقب دكتور أو معالي في مؤلفاته ومقالاته وخطاباته. وقد جادلته مرة في هذا فقال لي: (سيلقى محمد أحمد الرشيد ربه مجرَّدًا من الألقاب ومن كل متاع الدنيا إلا ما قدم من عمل صالح يشفع له بين يدي ربه). كان جوابًا مُفحمًا فلم أرد عليه. شهدت مقبرة أم الحمام بالرياض بعد صلاة عصر يوم الأحد 21-1-1435ه الموافق 24-11-2013م جموعًا من الناس تنادت للصلاة عليه بجامع الملك خالد وحضور دفنه حتَّى امتلأت الشوارع التي بين الجامع والمقبرة وساحة المواقف الواقعة خلف المسجد فاضطرت عشرات السيارات إلى الوقوف على جوانب شارع العروبة، واضطر المرور للحضور لتنظيم السير في شارع أم الحمام ما بين المسجد والمقبرة. والتف حول قبره العشرات ورأيت بعضهم قد تخلى عن وقاره فبكي، ولم احتمل الحزن الذي يعتصرني فأجهشت بالبكاء أداري دموعي فلففت رأسي بالشماغ وغطيت عيوني بنظارة سوداء. وفي هذه الأثناء استمعت لجماعات من الناس يتحدَّثون فيما بينهم عن مناقب الرجل وحُسن خُلقه وحبه للخير و(فزعاته) مع الناس، ومواقفه الصلبة في قول الحق ونصرته له مهما كان الثمن. جعلني هذا الموقف أتذكر المقولة الحكيمة التي تقول: (الرجلُ ذكر بعد موته) بمعنى أنّه لا يبقى من ابن آدم إلا عمله الصالح الذي يقدمه خالصًا لوجه الله: المرءُ بعد الموت أحدوثة يفنى وتبقى منه آثاره فأحسن الحالات حال امرئ تطيبُ بعد الموت أخبارهُ ثروة الرشيد الحقيقية: وكان من أهم صفاته -رحمه الله- حبه لخدمة الناس وعطفه على الفقراء والمساكين وتواضعه للصغير قبل الكبير ونصرته للضعيف إذا وجد الحق له، والسعي في إصلاح ذات البين. وقد سمعته ذات مرة يذكر في أحد مجالسه قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: (أفضل الناس عند الله أنفعهم للناس، وأقرب الناس إلى الله المصلحون بين الناس، ومن أصلح بين اثنين إذا تقاطعًا أعطاه الله بكلِّ كلمة مثل أجر عتق رقبة). وما أكثر الذين أساءوا فهمه وأساءوا إليه فتسامح معهم. وأذكر أنني رأيته متألمًا من أحد الذين هاجموه لأنّه تجاوز حدود النقد إلى التجريح الشخصي. ولكنه قال لي في آخر الحديث: (أنا أتألم لسوء الأدب عند بعض الذين لا يميّزون بين النقد البناء والتجريح الشخصي. وهذا يعني أن هناك خللاً تربويًّا. لهذا كنت أقول دائمًا: إن العلم وحده لا يرفع مقامات الناس إلا إذا اقترن بالتربية الصحيحة، لهذا لم يكن عبثًا أن توضع كلمة التربية قبل التَّعليم في مسمى الوزارة فيقال وزارة التربية والتَّعليم)، ثمَّ أضاف: (اطمئن يا أخي وثق أني لا أنام وفي قلبي موجدة على أحد مهما بلغت إساءته لي.. وأنا أحمد الله على هذه الخصلة). فذكرت له هذا البيت من الشعر الذي يقول: إذا ضاق صدر المرء لم يصفُ عيشه ولا يستطيب العيش إلا المسامحُ فقال لي: سأعطيك ما أفضل منه، هذا الدُّعاء الذي التزمتُ به منذ توليت وزارة التربية والتَّعليم وهاجمني بعض أعداء التجديد وبعض الذين لم يفهموا مقاصدي، أقول هذا الدُّعاء بعد الصلوات أو قبل النوم: (اللهم إنِي عفوت عن من ظلمني وأحسنتُ لمن أساء إلي وتصدقت بعرضي على الناس. فاسترني فوق الأرض واسترني تحت الأرض واسترني يوم العرض وأدخلني في واسع رحمتك)ِِ. وتعلمتُ منه -رحمه الله- هذا البيت من الشعر الذي يلخص منهجه في التعامل مع الذين يحاولون النيل منه: إذا بغى باغٍ عليك بجهله فاقتله بالمعروف لا بالمُنكرِ ثروة محمد أحمد الرشيد الحقيقية ليس ما تركه من مال ولا عقار فذلك ليس له ولا تهبط معه إلى قبره وإنما كانت ثروته الحقيقية التي يقابل بها ربه محبة الناس له وذكرهم له بالخير وأعماله الصالحات التي كان يُؤدِّيها بيمينه فلا تعلم عنها شماله رحمة الله عليه. فلا عجب - إذن- من محبة الناس لمحمد أحمد الرشيد - رحمة الله عليه- ولا عجب أن يكون حُسن خُلقه وأدبه وحبه للخير موضوعًا تحدث به الناس أثناء دفنه، فكان ذِكره عطرًا تضوعت به مقبرة أم الحمام في تلك الليلة. فلا عجب أن يحبه الناس طرًا. ونسأل الله الرؤوف الرحيم أن يكون ممن عناهم نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: (إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببتُ فلانًا فأحبه فيحبه، ثمَّ ينادي في أهل السَّماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السَّماء، ثمَّ يوضع له القبول في الأرض): من يعش ألفًا وإن طال الثرى لعبة الموت كمن عاش عامًا!! غير أن الخُلد للذِكر وهل وهل مثلُ طيب الذِكر يستهوي العظاما؟ عودة إلى مسقط الرأس: كانت الأحاديث الأخيرة بيننا تعرج على ذكريات طفولته وصباه في المجمعة مسقط رأسه. وكان أن اتصل بي يسألني إن كنت زرت المجمعة من قبل، فقلت له: نعم قبل أكثر من عشر سنوات. فقال لي: سنذهب مجموعة إلى المجمعة لحضور محاضرة للصديق د.عبدالرحمن الشبيلي وفرصة بالنسبة لي أن أزور مغاني صباي وباكورة شبابي. ليتك تكون معنا لترى بيتنا الذي عشت فيه ودكان أبي الذي كنت أعمل فيه مع والدي. وقد حشد «أبوأحمد» بشهامته المعروفة حوالي 30 شخصًا للذهاب للمجمعة لحضور محاضرة د.الشبيلي برًا بمسقط رأسه. أرسلت لنا دارة الملك عبد العزيز حافلة فاخرة لتقلنا إلى هناك. وبالفعل انطلقنا صباح يوم 23-11-1434ه الموافق 29-9-2013م. كان هناك برنامج أُعد لنا للتجوال في المجمعة القديمة. وطفنا بما تبقى من بيوت المجمعة القديمة، وكنت أرقب ملامحه وأحس بمدى سعادته وهو يشير للبيت الذي ولد فيه وعاش فيه صباه، ثمَّ ذهبنا مشيًا على الأقدام إلى السوق القديم ووقف أمام دكان والده، ثمَّ ذهبنا للمدرسة القديمة. كان في منتهى السعادة وهو يقف على تلك الآثار وكنت طوال التجوال التقط له الصُّور خاصة في المواضع التي عاش فيها مثل دكان والده والمدرسة. وقد لفت نظري في هذه الرحلة حب الناس له والتفافهم حوله وإشادتهم بمناقبه وسعادتهم بوجوده في مسقط رأسه. كان شخص «أبو أحمد محور الاحتفاء الكبير من أمير المحافظة ووجهائها وكل أهلها ورأينا من صنوف الكرم ما لم يخطر لي ببال. وأثناء وجودنا في المجمعة كان «أبو أحمد» قد أعطى وعودًا أمام إصرار الكرام، فكان لا بُدَّ أن يستجيب لتلك الوعود بعد ثلاثة أسابيع فكانت رحلتنا الثانية إلى بلدات تُمير وعشيرة سدير وعودة سدير. فكان -رحمه الله- محط الاحتفاء، لا يرفض لأحد من الأهالي الكرام طلبًا، وكان حريصًا كل الحرص على إدخال السرور إلى قلوبهم. كان يومًا حافلاً بالأحداث التي أظهرت محبة الناس وتقديرهم لهذا الرجل، تلك محبة صادقة وتقدير حقيقي يُندر أن يحظى به رجل بعد أن يترك منصبه. منهجه في إدارة ندوته: عرفت محمد أحمد الرشيد منذ سنين طويلة، ولكن لم تتوطد علاقتي به إلا في السنوات الأخيرة، واقتربتُ منه اقترابًا إنسانيًّا بالرغم من أنَّي لم أكن من الأعضاء الدائمين في ندوته التي تنعقد مساء كل يوم سبت في منزله. كانت فلسفته في إدارة هذه أنّه كان يرفض فكرة حصرها في موضوعات يتم تحديدها مسبقًا والاتفاق مع أصحابها وتوزيعها في جدول يعلمه الناس. كان هذا المنهج يتفق مع طبعه في التحرر من القيود وفكره الميال للانطلاق بلا حدود، لهذا ترك موضوعات ندوته مفتوحة للمستجدات على الساحة الوطنيَّة والعربيَّة، وما يمسنا في الساحة الدوليَّة، فالموضوعات تنطلق من وقائع الساعة. كان -رحمه الله- يديرها بذكاء إدارة لا تجعل أحدًا من الحضور يشعر أن صاحب الندوة يديرها. ومن أساليبه في طرق الموضوعات أن يحدث عن خبر، ثمَّ يترك ضيوفه يعلِّقون عليه ويضيفون إليه. وأحيانًا يفتتح ندوته بسؤال يوجِّه لشخص معين من الحضور من باب الاستفسار فينطلق الجميع بالمشاركة والإثراء. كان يحرص أن يترك ضيوفه يتحدَّثون وبكل حرية ولا يقول رأيًا إلا إذا وجد نفسه أمام سؤال مباشر من أحد الضيوف. كان مهمومًا في الفترة الأخيرة بالأحداث التي تستهدف هذا الوطن المقدس والأمة العربيَّة المسلمة عامة من تآمرات تحاك في الخارج وتستهدف إرباك الداخل بوسائل عُدّة. ومع ذلك فإنَّ الموضوعات التي كان مسكونًا بها هي قضايا التربية والتَّعليم، فهو من المؤمنين أن التربية والتَّعليم أساس نهوض كل شعب أو أمة، وهذا ما دفعه للتخصص في التربية والتَّعليم في دراساته العليا بالولايات المتحدةالأمريكية بالرغم من أنّه حاصل على البكالوريوس في اللغة العربيَّة وآدابها. جعل التربية والتَّعليم رسالة حياته في كلِّ مراحلها. وكان يَرَى أن الفائدة من التَّعليم لا تستقيم إلا بالتربية. وأن العلم وحده لا يصنع أجيالاً مُنتجة بل قد ينحدر بالأمة بدلاً من أن يرتفع بها. وما أكثر ما سمعته يضرب المثل بمعلم يحمل شهادة عالية ولكنه لا يستطيع تربويًّا أن يُفيد تلاميذه بعلمه لعدم قدرته على التعامل الصحيح مع مُتلقيه. كان يقول دائمًا: إن العالم سواء كان أستاذًا أو طبيبًا أو غيرهما إذا كان سيء الخُلق أو متكبرًا أو مغرورًا مهما بلغ علمه لا يستطيع أن يخدم أو يقدم ما يُفيد، فيقوم بتوصيل المعلومة من هو أقل منه علمًا ولكنه أحسن منه خُلقًا. وكان شعاره يُختصر في هذين البيتين: ومن تَجرَّد عن دين وعن خُلق فليس يرفعه علم ولا أدب والعلمُ والدين والأخلاق إن جُمعت لأمة بلغوا في المجد ما طلبوا وسيظلُّ التاريخ التربوي والتَّعليمي يذكر محمد أحمد الرشيد بطروحاته الجريئة وفكره المستنير وميوله للتجديد والتحديث وكسر قيود الجمود. وله في هذا اجتهادات كثيرة ومحاولات مخلصة نفذ الكثير منها عندما تولى مسئولية وزارة التربية والتَّعليم لمدة عشر سنوات وذلك انطلاقًا من رؤيته بأن وزارة التربية والتَّعليم هي أهم وزارة في أيّ دولة لأنّها الجهة المنوطة بصنع المستقبل والتخطيط له وإعداد أجياله القادمة، بينما معظم الوزارات تتعامل مع الحاضر. ولا توازي وزارة التربية والتَّعليم في هذه الأَهمِّيّة إلا الوزارات الاقتصاديَّة عندما لا يقتصر عملها لخدمة الحاضر وتمتد رسالتها للتخطيط والإعداد للمستقبل. همومه السياسية وحله لأمته: وكان آخر ما تحدث به عن قلقه من مخاطر ما سُمِّي بالربيع العربي ومكائد الدول الكبرى وقلقه مما نشر عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يهدف إلى تقيم اوطاننا من خلال إشعال نيران الفتن بين الشعوب وحكوماتها وجيوشها من جهة وإشعال فتن أخرى بين الشيعة والسُنة من خلال الدعم المستتر لإيران وتمكينها من غرس دويلات شيعة في المنطقة. لهذا كان قلقه كبيرًا من التحرك الايراني في اليمن على الحدود المتاخمة للمملكة. وكان رأيه أن الدعم الإيراني للحوثيين في صعدة يشكل تهديدًا لأمن المملكة أكثر مما يشكل خطرًا على اليمن نفسها، لأن المملكة هي المستهدفة من هذا الكيان الذي يُغرس على حدودها لأسباب عقدية وأطماع سياسية معروفة. وكان يعيبُ على وسائل الإعلام الوطنيَّة تجاهلها ما يحدث على مقربة من حدود الوطن وإعطائها اهتمامًا لما يجري في الدول التي لا تربطها حدود مباشرة مع المملكة. كان دائمًا يردّد مقولة الملك عبد العزيز (خيركم من اليمن وشركم من اليمن) وكان يفسر ذلك بقوله: إن اليمن هي الدَّوْلة الوحيدة التي يؤثِّر استقرارها أو اضطرابها على المملكة إيجابًا أو سلبًا فهي عمق إستراتيجي أمنيًّا اقتصاديًّا للمملكة. سباق مع الموت: كنتُ اقترحت عليه قبل سنة تقريبًا أن يُعيد طباعة مذكراته بعد أن يُضيف إليها تجارب حياته بعد أن ترك الوزارة، فقال لي أنا أفكر في هذا ولكني احتاج بعض الوقت للكتابة. ومضت الأيام سراعًا، ثمَّ وجدته يقول لي قبل حوالي شهر: إنّه أنجز بعض الإضافات الخاصَّة بمرحلة صباه في المجمعة وأنه يستعجل طباعة الكتاب. فقلت له: ليتك تمنحني في الاطِّلاع على المادّة التي أنجزتموها. فأرسلها لي. وبعد اطلاعي عليها وجدت أن لديه الكثير مما سمعته منه عن حياته وسجلته صوتيًا معه لم يكتبه. فقال لي: (لا أظنني أتمكن من فعل ذلك.. الوقت ضيق ولا أدري ما الذي سيحدث لي حتَّى ذلك الحين). والحقيقة أني لم أحمل كلامه ذاك محمل الجد. وقبل أسبوعين من رحيله اتصل وقال: (يا صديقي العزيز لا يوجد لدينا وقت لتنفيذ مقترحاتك بشأن مذكراتي.. لقد أعطيتها لأحد أبنائي ليدفع بها للمطبعة لعلي أراها مطبوعة فأنا لا أدري ما الذي سيحدث لي غدًا..؟!) وجادلته في التأخير والانتظار قليلاً فأصر. وبعد أن أنهيتُ معه المكالمة توقفت طويلاً عند قوله: (لا أدري ما الذي سيحدث لي غدًا..؟!).. وتذكَّرت أنّه كرَّرها لي ثلاث مرات في مناسبات مختلفة.. شعرتُ بحزن وفكرت في كلِّ شيء إلا الموت. كان يرسل لي رسالة ولكني لم أفهم ولم أتصور ولن يخطر الموت لي على بال. وعندما التقيته بعد عودتي من مكةالمكرمة احتضني كأني عدت من سفر طويل.. وأمسك بيدي وأبقاها في يده فترة، وظننت أنّه فعل ذلك لكي لا يُبقي في نفسي أثرًا لعدم تلبيته مقترحاتي بشأن مذكراته، وما كنت أدري أنّه كان يودعني الوداع الأخير..!.. وأدركت بعد ذلك أنّه كان في سباق مع الموت.. نعم كلّما تذكَّرت هذا الموقف تسيل دموعي محبة له وحزنًا عليه.. رحمك الله وأسكنك الجنَّة مع الصديقين المخلصين الإبرار.. استودعناك ربًا كريمًا رؤوفًا وسعت رحمته كل شيء يا أبا أحمد. *** - أبو أحمد يتفقد أطلال المجمعة القديمة ويستذكر أيام صباه وشبابه الأولى - في متحف أحد البيوت التراثية في المجمعة - أبو أحمد يقف على مشهد من أيام الطفولة والصبا في المجمعة - أبو أحمد يقف أمام دكان أبيه الذي عمل فيه في صباه بالمجمعة - في زيارة المدرسة الابتدائية الأولى بالمجمعة