«يظل الطفل بريئًا حتى يتعلم التصفيق»! .......مثل فرنسي * يذكر أمبرتو إيكو أنّه شارك في مسابقةٍ للخطابة حين كان في العاشرةِ من عمره، وكان قد حصل على الجائزة الأولى لأنه كان بارعًا في تمجيدِ موسوليني، إذ كان ولدًا ذكيًا على حدّ تعبيره! ثم يتذّكر بالمقابل كيف كان خطاب «ميمو» أحد قادةِ معارضةِ موسوليني مختصرًا في جملتين: «أيّها المواطنون الأصدقاء، ها نحن هنا بعدَ الكثيرِ من التضحيات المؤلمة، المجد لأولئك الذين ضحّوا من أجل الحرية»، وتعلّم من هاتين الجملتين أن جمالَ الخطاب في حريته من التكلّف! * كانت خطابات «الأب القائد» جزءًا أساسيًا من مناهجنا المدرسية، وكان يتوجّب علينا أن نحفظَ مقاطع أو أقوالًا نزيّن بها موضوعات التعبير الرديئة التي تتكرر من عامٍ إلى عام! وإن لم نحفظْها من الكتب نحفظها من جدران المدارس التي كانت الأوفر حظًا و»فخرًا» بين المنشآت الحكومية الأخرى، ولذا صرنا نردّدُها في حواراتنا العائلية بمناسبةٍ أو بلا مناسبة! ولدهشتي فقد كان هذا عاملًا مشتركًا بيني وبين إيكو، أعني حفظ «الخطابات التاريخية» للقائد التاريخي! * لم يكن حفظ الخطابات الشكل الأوحد لتقديس «القائد الرمز»! فقد كان علينا - الطالباتِ والطلابَ - في كل مناسبةٍ وطنية أن نقف حصتين متتاليتين على أقدامنا في الطابور الصباحي لأن الحصتين الأوليين غالباً تخصصان للاحتفال بهذه المناسبة، مهما كانت الأحوال الجوية، وكان علينا الاستماع إلى العبارات التي يمطرنا بها مدير المدرسة إن كان الاحتفال مصغرًا أو بعض مسؤولي اتحاد شبيبة الثورة أو شعبة حزب البعث أو نقابة المعلمين إن كان احتفالاً على مستوىً أوسع! وبالطبع لم يكن أحدٌ منا يكلّف نفسه عناء الاستماع إلى ما يُقال إلا عندما يُذكر اسم الرئيس عندها لا بد أن تُثار عاصفةٌ من التصفيق، ويتكرّر في كل مرةٍ يذكر فيها اسمه ولو ذكر في الجملة الواحدة أكثر من مرة! وكلما زادت مرات ورود اسمه في الخطاب كان ذلك أدعى لوصف كاتبه بالوطني، وكلما صفقنا أكثر كان ذلك درع حمايةٍ من «المشككين» بحبّ «فارس العرب»، وكان من الطبيعي لنا بعد كل هذا التعذيب «الممنهج» أن نصبح مثل «كلب بافلوف»، فنصاب بالذعر لمجرّد ذكرِ كلمة احتفال أو خطاب، وكانت صديقتي تتنهّد كلما أخرج المدير أوراقه استعداداً لإلقاء خطبته الملتهبة وتقول: «أخرج من معطفه الجريدة..» إذ يبدو أنه لم يسمع برأي إيكو الآنف الذكر من قبل! * لا يختلف فعل إيكو أو فعلنا في التصفيق ومديح «القائد» عن فعل شعب الإمبراطور الذي كان يحب ارتداء الثياب العجيبة، فكل المستشارين والوزراء والجمهور مدحوا «الثياب الفاخرة» للملك درءًا لتهمة الحماقة عمن لا يراها - رغم أنهم كلهم يعرفون أنه لم يكن يرتدي الثياب فعليًا - إلى أن طلب إليه الطفل أن يذهب إلى أمه لتعطيه بعض الثياب كي لا يصاب بالزكام! هذا طفلٌ جريءٌ ولم يفكر بذكاءٍ كما فعل إيكو، وإن بدا هذا سهلًا في عالم الحكايات، فهو في الواقع أكثر «رعبًا»! * قد يصدق القول بأن اليد الواحدة لا تصفّق، لكن ماذا عن الكلمات التي تصفّق دون يدين؟!