دوى صوته متردداً في أنحاء الوطن العربي الكبير منشداً أمجاد الأمة، وداعياً إلى الوحدة، والتقدم حاملاً صوت المظلومين والفقراء، ومنشداً لأطفال الوطن أجمل المسرحيات وأروع الكلمات، إنه الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى الذي يتقدم الشعراء العرب المعاصرين في الصف. لقد ارتبط اسم سليمان العيسى بذاكرتنا منذ كنا طلاباً على مقاعد الدراسة وحتى وفاته- رحمه الله-، ومنذ التقيته في دمشق عام 1991م وعلى مدى عشرين عاما، حيث تكررت لقاءاتي به مرات ومرات في مناسبات أو زيارات متبادلة، وخلال هذه السنوات ما رأيته إلا متجدد الفكر متقد الوجدان، مرهف الحس خصب الخيال، راسخ المبدأ والاتجاه، عربي الانتماء زاهداً متعففاً لا ينحني إلا لخالقه. انتمى إلى حزب البعث في بدايته إذ كان أحد المنظرين له ولكن أمله خاب حينما رأى أحلامه تتبدد، إذ بقيت التبعية والتشتت والتشرذم والفقر والجهل والمرض تنهش جسد الأمة، والشاعر سليمان العيسى،كان الشاعر الشاهد الذي اختزل بقصائده وأشعاره الحماسية هذا التاريخ الملتهب المتشظي الذي يمكن أن تكتب عنه المجلدات. لقد آثر بعد ذلك الهجرة إلى اليمن السعيد بصحبة زوجه (ملك أبيض) حيث كانت أستاذاً بجامعة صنعاء، وهو يكتب اشعاره وذكرياته، ويستجلي تاريخ أمته مع صديقه ورفيق دربه الشاعر اليمني - عبدالعزيز المقالح - مدير جامعة صنعاء آنذاك، ولقد بقي يتردد على دمشق في كل صيف يقيم في (شقته) المتواضعة البسيطة في ضاحية (دمر) بدمشق. ولكن صوته الهدار تراجع كثيراً وقصيدته (موكب النور) لم يعد يتردد صداها: هتفت بالشعر استسقيه قافية حمراء فانفجرت في أضلعي الحمم للمعول الصلد عهد في سواعدنا ألا يقر وفي هذا الثرى صنم أو قصيدته: على أقدامنا سقط المحال وأورقت الرجولة والرجال مشينا فالصواعق في خطانا وعشب القادسية والظلال ثمانون عاماً ونيف والشاعر سليمان العيسى ينشد ويرج المياه الراكدة ليزيل الطحلب عن المياه الآسنة، ثمانون عاماً وهو يقول: (أنا خلية من جسد هذه الأمة العربية تبحث عن ملايين الخلايا من أخواتها لكي يعمر الجسد وتبعث فيه الحياة.. ويقول: كنا نحلم.. أنا سوف نهز الشمس فتسقط في أرض الفقراء بيادر من قمح وغلال كنا نحلم ثم قبضنا يوماً بعد الضوء لتنسف فيه أصابعنا ولنعرف أن الحلم محال وإذا ما كبت الجياد في ملعب.. فإن قصائده في ملاعب الطفولة، وللطفولة قد قدمت للطفل العربي أجمل وأروع الأناشيد، وأحلاها، وأغلاها، اتجه بشعره إلى الطفولة فأبدع، وتحدث إلى الطفل العربي فحلق، نظم درر الأناشيد، وأجود المسرحيات بلغة فصيحة مبسطة ناعمة تعشقها الأطفال فألفوا ألفاظها، ومعانيها، وكان بذلك العمل الكبير الشاعر المجلي، والذائد عن اللغة العربية وعاشقها.. يقول في ديوانه (أغاني الحكايات) على لسان قطيع من الماعز يرعى في أعالي الجبل، ويلقي نظره من حين إلى آخر إلى الوادي البعيد: يا نسمة الجبال، يا نقية! يا نسمة الجبال! إنا عشقنا الشمس والحرية في هذه التلال من صخرة لصخرة ندور ويضحك الغمام يرشنا بالأخضر المسحور فعيشنا أحلام يا أيها الجيران في السهول تسلقوا القمم عيشوا مع النسور والوعول المجد للقمم!! لقد استحق بعطائه لأمته ولغته أن يكون عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق؛ تقديراً لأعماله الخالدة وعرفاناً بما قدم للغته المقدسة، وللحرف العربي الأصيل. وتنتهي رحلة شاعر العرب، وقيثارة الشام باحثاً عن رحيق الحرف، صارخاً في القفار والديار، شارداً في الغيوم، والسهوب والمطر منشداً للكبار والصغار بعد أن أناخ رحله فوق الخطر، وتيبست يداه تمدان الظلال على الأجيال أن تقرأه في كل أحلام الشجر!! سبعين أبحث عن رحيق الحرف أسقيه الرمالا سبعين أصرخ في القفار لا الصوت بحّ ولا القفار ردت صدى رشحت بقطر من ندى سبعين أشرد في الغيوم واستحثُّ على خرائبنا المطر وأقول شعراً في الصغار.. وفي الكبار أنيخ رحلي فوق قارعة الخطر سبعين.. ما زالت يداي.. وقد تيبستا.. تمدان الظلالا علَّ الرمالا علَّ الطفولة تنبت العشب الذي يهب النشور المستحيل يفجر الغيب المحالا إنا نحاول.. فاقرئينا.. في جذورك.. كل أحلام الشجر يقول عنه صديقه ورفيقه الشاعر اليمني (عبدالعزيز المقالح): سليمان العيسى هو هذه الشجرة الشعرية المباركة التي نشأنا في ظلالها، وتعلمنا لغة الشعر الحديث على أغصانها المثمرة بالكلمات المضيئة؟ ويقول: لم تعرف الساحة العربية شاعراً في تعففه وزهده وترفعه عن الشهرة الزائفة والمجد الذي بلا ثمن كما، عرفت الشاعر الكبير سليمان العيسى..- رحمه الله-، وجازاه على ما قدم لأمته ولغته خير ما يجازى به العاملون الصالحون الذين تركوا في سمع الزمان ما يمكث في الأرض. الملحق الثقافي - الأسبق - في سوريا