يصعب لوم وزارة المالية حين تعتمد، ضمن معايير أخرى، معيار «الأقل سعراً» عند ترسية المشاريع الحكومية على الشركات المتنافسة، فهذا المعيار ضروري ومنطقي. ولكن ما يؤخذ على الوزارة هو تمسكها الشديد والحرفي في كثير من الأحيان بهذا المعيار على حساب أمور واعتبارات أخرى كثيرة. وإذا كان من واجب وزارة المالية أن تحافظ على المال العام، وأن تسعى إلى ترشيد صرفه وعدم تبديده، فإن هذا الواجب يقتضي - أيضاً - أن تكون نظرتها شمولية ذات امتداد «اقتصادي» يتجاوز المدى القريب ولا يقف عند المدى «المحاسبي» القصير. فكم من مشروعات تبدو جذابة من الناحية المالية المحاسبية بالمقارنة مع مشروعات أخرى وذلك في المدى القصير ولكن عند أخذ جميع الاعتبارات يكون من الواضح أن تلك المشروعات التي توفر للدولة بعض المال في المدى المحاسبي القصير ليست هي الأفضل في المدى الاقتصادي الأبعد! من ناحية أخرى، بوسع الكثير من المحترفين العاملين في الشركات التي تتقدم بعطاءات إلى الأجهزة الحكومية اختيار «التغليف» المناسب وتسويق عطاءاتها إلى تلك الأجهزة وفق المعايير الشكلية وتكون - أيضاً - مستوفية لمعيار «الأقل تكلفة»! وبهذا يتم ترسية المشروعات عليها، لكن النتائج لا تكون سارة في كل الأحيان. وقد أثبتت مواقف متعددة سابقة أن معيار «الأقل تكلفة» كان أحد الأسباب التي أدت إلى تعثر تنفيذ المشروعات أو تنفيذها بطريقة سيئة. لقد حاولتْ وزارة المالية في بيانها الصادر أخيراً أن تشرح للجميع أن معيار «الأقل سعراً» ليس هو المعيار الوحيد وأن نظام المنافسات والمشتريات الحكومية حدد معايير أخرى ووضع مدى معين بحيث يتم استبعاد العطاءات التي تقل قيمتها عن الأسعار التقديرية للجهة بنسبة 35 بالمائة. وكل هذا جيد، لكن الحقيقة أن كل من عمل في الأجهزة الحكومية يعرف من التجربة القاسية المريرة أن هذا المعيار رغم منطقيته الظاهرية من حيث المبدأ، كثيراً ما يصبح عائقاً كبيراً أمام حُسْن الاختيار؛ حيث تُصر الجهات المالية على اختيار مقاولين غير مناسبين لمجرد استيفائهم بعض الشكليات التي حددها النظام! لا أحد يعترض على أن تبذل وزارة المالية أقصى جهد ممكن لحفظ المال العام، وعمل كل ما في وسعها لسد أي ثغرة يمكن أن تجلب ممارسات فاسدة، لكن الحقيقة المؤلمة أن معيار «الأقل سعراً» لم يَحُلْ دون الممارسات الفاسدة، وكثيراً ما كان سبباً في تعثر المشاريع أو تنفيذها بطريقة غير سليمة. [email protected] ص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض