مرّت بلادنا في بداية نشأتها الحديثة في طورها الثالث بحالات فقر وإجداب في الطاقات الوطنيَّة المؤهَّلة القادرة على إدارة الأعمال وتسيير مصالح المواطنين والإسهام في الحركة العلميَّة والثقافيَّة، وكان عدد غير قليل في القرى والأرياف لا يشعرون بدوافع قوية لانتزاع أبنائهم منهم من أجل طلب العلم في مدن أخرى بعيدة؛ كما كان يحرص الملك عبد العزيز -رحمه الله- فيقدمون إليه مشتكين أن مزارعهم أو ماشيتهم سيصيبها الإهمال برحيل الأولاد لطلب العلم في المعهد العلمي السعودي بمكَّة حين تَمَّ افتتاحه عام 1346ه أو مدرسة دار التوحيد بالطائف عام 1356ه أو مدرسة تحضير البعثات في العام نفسه، أو كلية الشريعة بمكَّة عام 1369ه أو المعهد العلمي بالرياض في العام نفسه؛ فيأمر بأخذ واحد من أبنائهم على الأقل ويدع لهم الباقين يرعون ماشيتهم أو يعنون بفلاحتهم! وهكذا كانت مشقَّة إقناع النَّاس بضرورة التَّعليم؛ وقد تخرجت الدفعة الأولى من المعهد العلمي السعودي بمكَّة عام 1350ه وضمَّت نخبة ممتازة من الدارسين الذين أصبحوا أدباء نابهين وإداريين ناجحين، ومنهم مثلاً حمد الجاسر وعبد الكريم بن جهيمان وعبد الله خياط وغيرهم، ولأهمية هذا الحدث العلمي استقبلهم بصحبة الهيئة الإدارية والتعليميَّة للمعهد برئاسة إبراهيم الشورى الملك وألقى فيهم كلمة معبِّرة قال فيها: «أنتم أول ثمرة من غرسنا الذي غرسناه في المعهد فاعرفوا قدر ما تلقيتموه فيه من العلم، واعلموا أن العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عونًا لصاحبه يكون عونًا عليه، وليس من يعلم كمن لا يعلم، قليل من العلم يُبارَك فيه خير من كثير لا يُبارَك فيه، والبركة في العمل. ونظرًا لقلّة المُتعلِّمين اجتهد الملك المؤسس للاستعانة بالكفاءات العربيَّة المتميزة للمشاركة في إدارة دفَّة الدَّوْلة في الخارجيَّة والإعلام والتَّعليم والتخطيط؛ ولعلَّنا نتذكَّر منهم مثلاً: اللبناني فؤاد حمزة صاحب كتاب «قلب جزيرة العرب»، والسوري يوسف ياسين صاحب كتاب «الرحلة الملكية»، والمصري حافظ وهبة صاحب كتاب «خمسون عامًا في جزيرة العرب»، والسوري خير الدين الزركلي صاحب موسوعة «الأعلام»، وغيرهم، مع عنايته الدَّقيقَة بمن يملك قدرات أدبيَّة أو علميَّة من أبناء البلاد؛ فاستعان بهم وأوكل إليهم مهام جسيمة في إدارة ما يتناسب وكفاءاتهم، ومنهم مثلاً محمد سرور الصبان، وعبد الله عمر بالخير، وغيرهما. تلك كانت فترة مكافحة وعصيبة حقًا في سبيل وقوف الدَّوْلة على قدميها، حتَّى تطوَّرت الأمور وتيسَّرت قليلاً بعد أن امتدَّت البعثات إلى مصر فتخرجت أجيال رائدة بدءًا من عام 1360ه تقريبًا إلى نهايات عام 1395ه متزامنًا ذلك مع بدء البعثات أيضًا إلى أوروبا وخصوصًا إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكيَّة فتلاحق تكون أجيال متعلمة متميزة ترفد أفواج المتخرجين من الكلِّيات، ثمَّ الجامعات السعوديَّة التي بدأت في التشكّل مطلع السنوات الأولى من السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، وتوالت أجيال الدارسين المبتعثين بين نشاط وخمول، وإقبال لا يكاد يفتر على الدِّراسات الجامعية وما بعدها في الداخل، حتَّى توافر لدينا من كل ذلك التراكم الهائل: نوعيات وكفاءات مختلفة، مشارب التلقي مُتعدِّدة، مصادر المعرفة متنوّعة، طعوم الخبرة، فساهمت في تسيير دفَّة الحياة العملية في كلِّ مناحيها، وهذا ما يستدعي تأمَّلاً دقيقًا ومنصفًا لسمات تلك الأجيال ووقفة موضوعية عند طريقة أدائها ونوع ثقافتها وأساليب تشكّل تلك الثّقافات والمعارف. ونعيش الآن طفرة غير مسبوقة في الابتعاث في عهد الملك عبد الله -أطال الله عمره- تتفوق في حصيلتها عددًا ونوعًا على تاريخ الابتعاث كلّّه منذ بدأ في بلادنا؛ فلدينا في كلِّ أنحاء العالم أكثر من مائة وخمسة وخمسين ألف طالب، وهو رقم كبير لم نستطع الوصول إلى نصفه منذ بدأ ابتعاث أول دفعة وكانت لتعلم الطَّيران في إيطاليا وتخرجت 1352ه وهم: صالح عالم، عبد الله منديلي، صدقة وحمزة طرابزوني، أمين شاكر، سعيد بخش. إن لِكُلِّ جيل سمات وخصائص، وللدارسين في الداخل في كلِّيات دينية أو كلِّيات أخرى مدنية تتصل بعلوم الدُّنْيَا كالطب والزِّراعة والرياضيات والآداب وغيرها، وللدارسين أيضًا في الخارج اتجاهات ورؤى قد تكون مختلفة بعض اختلاف أو كلّّه عن الدارسين في الداخل على الأخص، وقد ظهر ذلك التنوّع ثراءً وتعددًا في تكون ما يمكن أن نسميه مدارس في الإدارة، واتجاهات في الفكر؛ بين إدارة بيروقراطية محافظة، وأخرى حديثة متطوّرة، وبين اتجاهات فكريَّة تقليدية وأخرى منفتحة ذات أبعاد ومكتسبات ليبرالية غربيَّة أو عربيَّة متأثرة بحركة التحرر العربي أوائل الخمسينيات الميلادية والستينيات من القرن الماضي، وبعض هؤلاء ظهرت عليه آثار ذلك المدُّ القومي المدني المنفتح وأضاف إليه ما اكتسبه من وعي بطرائق الحياة في الغرب فكان خليطًا متمازجًا مدهشًا من المدرستين؛ كما بدت شخصيَّة غازي القصيبي مثلاً. إذًا من هو ذلك الجيل من المُتعلِّمين الأوائل الذي يمكن أن نطلق عليه بأنه جيل سلفي، ومن هو ذلك الجيل المتمرد الذي تأثر بالمد القومي أو الشيوعي أو البعثي، ومن هو ذلك الجيل الذي بدأ في تُلقِّي فكر جماعة الإخوان المسلمين واستلهام تلك التجربة الفكريَّة الحزبية والدَّعوة إليها وتأسيس أجيال جديدة لاحقة أنبتت تلاميذ ومريدين لهذا الفكر في المملكة، ثمَّ كيف تأثرت الإدارة والتنمية بمن تسنّموا وأداروا مراكز قياديّة من تلك الأجيال على اختلاف مشاربها، ومن كان منهم المتوثب المجدِّد المغامر الدافع إلى الاقتحام والتغيير والإضافة، ومن كان منهم التَّقْليدي البليد القلق المضطرب الانتهازي الذي أهديت إليه الفرص الإدارية إهداء لندرة المنافسين والنَّقص في الكفاءات وغلبة الجمود وهيمنة روح التبلد وتسيد نظرية «المهم يمشي الأمور»! سأتناول في الجزء الثاني من هذا المقال كل هذه الرَّؤَى المتقاطعة بشيء من التأهل ووضع الأحكام باجتهاد موضوعي محايد واستقراء أرجو أن يكون دقيقًا ومنصفًا لِكُلِّ المراحل التي مرت. يتبع. [email protected] mALowein@