رحم الله شيخنا الإمام القدوة عبد العزيز بن باز حين رفض المناظرة العلنية مع أحمد الخليلي وقد ذكر شيخنا العلاَّمة صالح الفوزان - حفظه الله- في كتابه البيان لأخطاء بعض الكتاب ص 238 السبب في امتناع الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله- من المناظرة فقال: (كره المناظرة المعلنة التي تضرُّ بعض الناس, وتدخل عليهم بعض الشكوك؛ لأنه والحمد لله في مجتمع سالم من هذه الأفكار المنحرفة, فلا يريد أن يفتح على الناس باب شرٍّ هم في سلامة وعافية منه. وهذا غاية الحكمة). هكذا هم العلماء حقيقة، وهذه هي الطريقة الشرعية التي سار عليها سلفنا الصالح وأجمعوا عليها, وتواتر ذكر ذلك في مصنفاتهم, فإنهم نصوا على المنع من المناظرات مع أهل البدع والضلال, مع أنه لا توجد عندهم القنوات التي تنشر المناظرات علانية على الملايين التي تولَّد بسببها شر كثير قال ابن عبد البر - رحمه الله-: (أجمع أهل العلم بالسنن والفقه, وهم أهل السنة عن الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيلهم اعتقاده بالأفئدة.. وإنما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام, وما كان في سائر الأحكام..). قال الإمام مالك - رحمه الله-: (إن أهل بلدنا يكرهون الجدال والكلام والبحث والنظر إلا فيما تحته عمل, وأما ما سبيله الإيمان به, واعتقاده, والتسليم له, فلا يرون فيه جدالاً ولا مناظرة). قال ابن قدامة - رحمه الله-:(والذي قاله مالك رحمه الله تعالى عليه جماعة العلماء والفقهاء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى, وإنما خالف ذلك أهل البدع). قال البغوي - رحمه الله-: (اتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه). قال معاوية بن قرة - رحمه الله-: (إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال). وبوّب ابن حبان - رحمه الله- في صحيحه (ذكر الزجر عن مجالسة أهل الكلام والقدر ومفاتحتهم بالنظر والجدال). واللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة ذَكَرَ سياق ما روي: (في النهي عن مناظرة أهل البدع, وجدالهم والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة). وعقد كثير من العلماء الماضين في كتبهم باباً (في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والاستماع إلى أقوالهم). قال الحسن البصري - رحمه الله-: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم). قيل للإمام مالك بن أنس - رحمه الله-: يا أبا عبد الله الرجل عالماً بالسنة أيجادل عنها؟ قال: (لا!، ولكن يخبر بالسنة فإن قُبِلتْ منه وإلا سكت). وقال: (ليس الجدل من الدين بشيء). وقال الإمام أحمد - رحمه الله-: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين). وقال البربهاري في شرح السنة: (وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك فاحذر الكلام وأصحاب الكلام والجدال والمراء والقياس والمناظرة في الدين فإن استماعك منهم وإن لم تقبل منهم يقدح الشك في القلب وكفى به قبولاً فتهلك وما كانت قط زندقة ولا بدعة ولا هوى ولا ضلالة إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس وهي أبواب البدع والشكوك والزندقة). بل نص اللالكائي - رحمه الله- أن المغترين بأنفسهم (المتعالمين) ممن ينسب نفسه إلى العلم هم الذي بمناظراتهم جنوا على أهل الحق وكانوا سبباً في ضعفه؛ لأنهم سلكوا غير سبيل السلف الصالح فقال - رحمه الله-: (فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة, ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً.. ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً, حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً, وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً, حتى كثرت بينهم المشاجرة, وظهرت دعوتهم بالمناظرة, وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة.. إلى أن قال: فصاروا أقراناً وأخداناً, وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً, بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً). وصدق - رحمه الله- فكم من مناظرة بسببها انتشرت الشبه بين أهل الحق من العوام، بل وبعض المنتسبين للعلم، وكم من مناظرة جرَّت الشكوك إلى قلوب كثير من المشاهدين, وكم من مناظرة أورثت الظن بعد اليقين, والزعزعة بعد الثبات, وحَرَفت مريد الحق إلى الباطل, وكم من مناظرة ظهر فيها الحق ضعيفاً هزيلاً لحماقة المناظر وجهله, بل كم من المجالس التي تناقل العوام فيها الشبه بسبب تلك المناظرات فاشتغل العلماء بنقض وكشف تلك الشبهات التي وردت في المناظرات لرد كثير من الناس عن الانحراف, ورحم الله سلفنا إذ قالوا: (القلوب ضعيفة والشبه خطافة), وجزى الله علماءنا حقيقة على ما بذلوه وقدّموه خيراً في كشف الضلالات بالطرق السليمة. ويا مصيبة من تسبب في نشر تلك الشبهات بين القلوب السليمة, وإثم من ضلَّ من أهل السنة, وانحرف منهم عن الحق إنما هو على من مكَّن للمناظرة ونشرها وقدّم لها, وعلى المُناظِر الذي يُحسب على أهل السنة الحمل الأكبر مع أنه خالف إجماع علماء السنة على ما مضى ذكره فوقع في الخطأ مرتين: الأولى: أنه من خلال مناظرته نشر خصمه الشبه بين أهل السنة. والثانية: أن فعله مخالف للإجماع, والله المستعان. فإن قيل: كيف يبيّن للناس الضلال إلا لم يرد على أهله؟ فيقال: قبل تبيين الضلال لا بد من تعليم وإيضاح الحق والمعتقد الصحيح فمثلاً لا تأتي إلى رجل تبيّن له خطر سبابة الصحابة وأنهم يطعنون في الصحابة - رضي الله عنهم- وهذا الرجل لا يعلم فضل الصحابة ومكانتهم في الإسلام، بل بيّن مكانة الصحابة وأنهم خير هذه الأمة, وأن الذي يقدح في أحد الصحابة أنه ضال وعلى خطر عظيم, فإذا تقرَّر عنده ذلك فسيعلم مباشرة خطورة من يذم أحد الصحابة فيحذره, ثم لو خرج أحد العلماء وبين مكانة الصحابة في القنوات وبين ضلال القادح فيهم وكشف ما دار من مسائل حول الصحابة - رضي الله عنهم- وبين ذلك بالدليل من غير مناظرة ولا إحضار لمبتدع يقدح في أحد الصحابة لكان من الدعاة إلى الله على منهج سلفه الصالح. كذلك مما يبين الضلال ويظهر الحق تأليف المؤلفات ونشر الكتب وكشف الشبهات لا أن يسمع الناس الشبهات من المناظرة التي في كثير منها لا يوفق المناظر من ردها وكشفها في حينها. فإن قال قائل: الإمام ابن تيمية رحمه الله ناظر؟ فيقال: أين المناظِر الذي يقرب من منزلة شيخ الإسلام - رحمه الله-, ثم الإمام ابن تيمية - رحمه الله- قد أُجبر على المناظرة وجلب من السجن بأمر السلطان, هذا من جهة ومن جهة أخرى أن أكثر العلماء في ذلك الزمان مخالفون له وقد وشوا به لسجنه ومنعه من الفتوى فناظرهم لإظهار الحق وبيانه لهم، فوضعه مختلف, فكل يدرك الفرق بين من كان بين أهل السنة من علماء وعوام فيأتي مبتدع للمناظرة, وبين من كان الأكثر مخالفين له من علماء وعوام, والضلال منتشر من علم الكلام وغيره بينهم، قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله-: (فقد سُئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد. لما سعى إليه قوم من الجهمية؛ والاتحادية؛ والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد. فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة؛ قضاة المذاهب الأربعة؛ وغيرهم من نوابهم؛ والمفتين والمشايخ؛ ممن له حرمة وبه اعتداد. وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة فقال لي: هذا المجلس عقد لك فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك وعمَّا كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد. وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك). فإن قال قائل: حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر الخوارج؟ فيقال: ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه- ذلك, لكن لا بد من معرفة أمرين: أحدهما: أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يناظر الخوارج بمحضر من أهل السنة, بل ذهب إلى الخوارج في عسكرهم فناظرهم, فهذا ليس فيه ضرر على أهل السنة, ولا إبراز لما عليه الخوارج, ولا نشر لشبههم بين الناس. الآخر: أن الذي بعثه هو الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه- فهو أعلم بالمصالح والمفاسد, وقد بعث رجلاً من أعلم الناس في زمانه ومع ذلك أوصاه في مناظرتهم, وكيفية محاجَّتهم. فإذا كانت بهذه الصورة المُناظِر عالم من علماء السنة لا من القصاص ولا من الوعاظ ولا متشبع بما لم يعطه كحال أكثر المتزعمين للمناظرات، بل إن بعضهم لا يعرف له كتاب في العلم ولا درس فيه, وإن أخذ درجة الدكتوراه ولو في تخصص شرعي فكثير منهم أشبه بالعوام لا يحسن فهم الشبه ولا كشفها ومع ذلك ينصب نفسه للمناظرات المباشرة التي تبث على ملايين الناس, وأخشى أن يكون للنفس في ذلك شهوة من حب شهرة ونحوها فهذا حري ألا يوفّق في مناظرته, عوداً على بدء فإذا كان المُناظِر عالماً من العلماء المشهود لهم وسوف يناظر المخالفين للحق في دارهم ومحل إقامتهم بحيث يكون التأثير على المخالفين فقط وأهل السنة ليس لهم في المناظرة لا ورد ولا صدر، فهنا يحسن الاستدلال بفعل ابن عباس رضي الله عنهما. وأتمنى كما صدر الأمر الكريم بتنظيم الفتوى وربطها بدار الإفتاء وبسماحة المفتي العام - حفظه الله ووفقه- أن يصدُرَ قرار يمنع كل ما كان في هذا البلد من المناظرات في القنوات فهي أشد وأخطر على عقيدة أهل هذا البلد من الفتوى, لاسيما وبعض الذين صدَّروا أنفسهم عندهم من الضعف العلمي ما هو واضح حتى عند العوام, وأن تربط مسألة المناظرة بدار الإفتاء، فإذا تحققت المصلحة ورشح العلماء من كان أهلاً للمناظرة فيبعث إلى مقر المخالفين ولا تنشر المناظرة بين الناس ولا على القنوات؛ لئلا تنتشر الضلالات والبدع الذي تصادم الأصل الذي قامت عليه هذا الدولة المباركة زادها الله من فضله, وليس هذا بدعاً فإن علياً - رضي الله عنه- هو الذي وجّه ابن عباس لمناظرة الخوارج قال ابن حزم - رحمه الله-: (حاجّ ابنُ عباس الخوارجَ بأمر علي رضي الله عنه), وفي هذا الأمر قطع للطريق على المتربصين بهذا البلد، وفي فعل ذلك سلوك لطريق السلف الصالح. فائدة: المباحثات والمناظرات في المسائل الفقهية مما ينمي الملكة الفقهية بشرط كون المسألة محلاً للاجتهاد، قال ابن عبد البر - رحمه الله-: (وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك), وبنحو ذلك قال ابن حزم - رحمه الله-. أسأل الله أن يمكِّن لأهل السنة في كل مكان، وأن يحفظ على أهل هذه البلاد أمنها وإيمانها، وأن يكف أهل الشر عنها. - عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء