لعلّ المتابع للشعر الشعبي يلاحظ أن قصيدة الرثاء وهي أحد عناصر الشعر لم تتغيّر ولم تتبدل واستمرت على نفس النهج والأسلوب منذ زمنٍ بعيد وما زالت كذلك بحيث حافظت على النمط التقليدي السائد بعكس بعض الأغراض الشعريّة الأخرى التي طالها التجديد من حيث المفردة والأسلوب والنسق العام لبناء القصيدة وذلك نتيجة لتغيّر الزمان ونمط الحيّاة العصريّة ومن المؤكدّ أن الحدث هو الذي فرض ذلك النمط التقليدي السائد لهذا العنصر فليس هناك ما يدعو للخروج عن المألوف في مثل ذلك الموقف فقصيدة الرثاء دائماً ما تبدأ بسماع الخبر مثل قول (علمٍ لفاني) أو (الله من علمٍ) أو (جاني خبر) وما إلى ذلك من المطالع التقليديّة المعتادة ومن ثمّ يأتي بعدها وقع ذلك على الشاعر بعد تلقيه للخبر وما يصاحبه من أسى وحزن ليّأتي بعدها ويعرّج على ذكر مآثر الفقيد وذلك من خلال ترديد كلمة (مرحوم) في بداية كل شطر ومن ثمّ يختمها بطلب الرحمة والمغفرة والدعاء للفقيد، وهذا هو السيناريو لمجمل قصائد الرثاء التي تتكرر منذ القِدم إلا أن هذا لا يمنع من وجود من يخرج عن هذا النمط وإن كان هذا نادراً.. إلا أن الشاعر (عبدالله البراهيم السليم) وهو من الشعراء المخضرمين، حيث جاوز الثمانين من عمره قد خرج من عباءة التقليد في هذا الجانب إلى فضاء أرحب بحيث اتخذ نهجاً خاصاً وذلك من خلال قصيدته التي رثى بها أحد أصدقائه الذي قضى إثر حادث أليم ولقد حدثني صاحب القصيدة عن تلك الفاجعة التي مرّ بها، حيث قال إنه كان مع صديقه في الصباح الباكر من ذلك اليوم يقفان جنباً إلى جنب ويتجاذبان أطراف الحديث أمام أحد المخابز التقليدية في مدينة عنيزة لشراء بعض الخبز وبعدها ذهب كلّ في سبيله، حيث ذهب شاعرنا إلى مزرعته الواقعة في منطقة الجناح في الشمال الغربي لمدينة عنيزة وبعد ذلك بساعات وفور انتهائه من صلاة الظهر ركب سيّارته متوّجهاً إلى داخل البلد، حيث شاهد جموعاً من المواطنين يحملون جنازة متوّجهين إلى المقبرة التي لم تكن بعيدة عن مزرعته فتوّقف ليستطلع الأمر وقد صُعق بالخبر حينما عرف أن صديقه الذي كان يحادثه في الصباح هو من انتقل إلى رحمة الله بسبب حادث سيارة وقع له بعد افتراقهما بوقت وجيز عندها قال قصيدته الرثائية التي يقول مطلعها: أنا والصديق الصبح بشريقة الضحى يميني على يمناه والكلّ سايل وحزّت وجوب الظهر شالوا جنازته مع الدرب يتلونه جموع القبايل قلت الخبر قالوا زميلك توّفى ولعلّه على الجنّة بصفّ النفايل وخرّيت ساجد قبل ما كمّل الندا على الجال وترابه عليّ متهايل وسجمّت بالميقاف مقدار ساعة وعلّيت بدموعي تراب النثايل وبعد الانتهاء من مراسم الدفن يستجمع قواه ويذهب لمنزل الفقيد للتعزية، حيث يقول: قالوا لي هيّا لازم نعزّي اخوته والاوهام ما تشفي القلوب الغلايل وردّيت اعزّي من طلا الحسن خدها ولفّت على وجهه سبيب الجدايل يومي بها النسناس من نشف عودها وعلى الله كسّاي الجسوم النحايل وناحت ثلاث ايام وامست بضدها كما وصف عرجونٍ بصيف القوايل ليعود بعد ذلك إلى المقبرة بعد أن أدرك حقيقة الموقف ليقف لحظات تجلٍّ روحاني مفعم بالإيمان ليعبر عن ذلك بمشهد درامي حزين، حيث يقول: وردّيت للميقاف من عقب ما مضى وابديت باسم اللي له الخلق سايل وتمشّيت مع دربٍ يهايف على الضّبط شمالٍ عن الديرة يمين الزعايل وانا امشي على رمّة سكوتٍ من الملا واسلّم على رسم الفنا بالنصايل وافكّر بلوفات الليالي وحزنها ولا ادري متى ابلحق سلوف الرحايل وانا من جفا الدنيا مريبٍ ومقتنع ولا النفس تقنع من حياة الهوايل ولو شافت الحفّار والقبر واللحد عليه القدر يومي بروس النثايل يقول ارحلوا خلوا المرابي لغيركم فلا للفتى عمرٍ بالايام طايل ويسترسل بقصيدته ليعود مستعرضاً طبيعة النفس البشرية بتجاهل ونسيان الأمر الواقع، حيث يقول: ولا احدٍ من المخلوق يسمعني بالندا لما تاصله سود الليال الغلايل وهو دالهٍ يقضي حياته على السدا ولا هو عن النفس الوهيمة بسايل يعمّر ويبني تحت الانقاض حلته ولو كان دربه عن قدا الرشد عايل يحسبه يعمّر دايمٍ به ويهتني ولو مالت الدنيا فلا هوب مايل ليختم قصيدته بعد ذلك بنصيحة هي نتاج لذلك الموقف الحزين يحثّ فيها على عدم التشبثّ بالحياة وعدم الانزلاق وراء زخرفها، مذكِّرًا بأن الفناء هو النتيجة الحتميّة، مضمناً ذلك بأمثلة من واقع الحياة حينما يقول: وباكتب على بيض الصفايح نصيحتي واعلم حفيد اللي عن الوجد سايل واقول امتثل للي غدوا عقب ذكرهم ولا عقبهم حيٍّ يجيب الرسايل وبرّق برمس ديارهم واجرد الحصى عليه الذواري طامسات الدلايل ما غير الليالي فرقّت جمع شملهم واقفوا بخاماتٍ قصاف الشلايل راحوا وخلوا ناعم المال والذي من الهم يجول به من الهم جايل راحوا ولا حيّ درا عن مصيرهم ما غير الولي منشي صدوق المخايل لعله على الجنّة يعدّل نصيبهم ويجنبهم النيران زرق الملايل والحقيقة أن تلك القصيدة الرائعة ليست الوحيدة التي نهج فيها الشاعر هذا النهج؛ فقد رثى شقيقه (عبد العزيز) الشاعر المعروف - رحمه الله- بقصيدة تحمل ذلك الطابع من حيث التجديد والتي يسندها إلى ابن عمّه ويقول فيها: دبّ الاسى والياس بالصدر يا حمد وبيضه ثلاث من الحمامات نايح قالوا لهن كفن عن النوح والبكا فلا بدّ ما حي ٍ على الكون رايح قالن ترى ما نقدر الصبر والعزا من فقد مرحوم ٍ بنا الهمّ جايح نبكي عليه الليل والصبح والضحى وعينٍ حجاها بازرق الدمع جارح راحت به الايام وادرج به القدر نجمٍ طفى من عقب ما هوب لايح ومع أن الإنسان حظي بنعمة النسيان إلا أن ألم الفقد ربما يظل ملازماً للبعض لفترات قد تطول أحياناً، وفي ذلك يقول: لو قيل فات وكمّل العمر وانتهى يبقى خياله طول الأيام واضح ينشر لهم بأشباح الأوهام صورته لو هو بعيدٍ صار بالعين لامح وكنه على البرهان حيٍ دارهم يمشي على الاقدام والجو بارح وذي حالة الحيين إلى فات حيّهم يبرى لهم ذكراه بالقلب رازح إلى آخر القصيدة. ولعلّي أزعم أن في هذه القصيدة وسابقتها نوعاً من التجديد والبعد عن التقليد الذي ظلّ ملازماً لقصيدة الرثاء في جميع مراحلها.