أكتبُ مقالي اليوم استكمالاً لما كتبته بُعيد وفاة الدكتور غازي القصيبي رحمه الله ، بعنوان : غازي ومواسم الحزن والموت ، تحدثت فيه عن التلازم بين شعره ، والحزن والموت اللذين كان لهما مواسم في حياته مذ كان رضيعًا . لم يلتق ِالشعراء على اختلاف مذاهبهم على أمر مثلما التقوا لدن التعبير عن وطأة الزمن ، والمتتبع لشعر غازي القصيبي يجد أمثلة على ذلك ولّدها إحساسه المفرط بسطوة الزمن ، الذي يؤذن بالنهاية وينذر بدنو الأجل ، وديوانه يضج بالإحالة إلى هذه النزعة ؛ إذ يبرز عنصر الزمن في شعره باعتباره أحد العناصر الأساسية التي تشكل تيمة الموت الذي أصبح لازمة في لاشعوره ، لكثرة من مات من أهله وإخوته وأصدقائه . الرثاء من أهم الأغراض الشعرية وأكثرها صلة بالنفس الشاعرة والتصاقاً بوجدانها ؛ فقد انبثق هاجس الموت في شعر غازي القصيبي مبكرًا ، ورافقه إلى أخريات حياته حين رثى نفسه في قصيدة حديقة الغروب ، وتلك المقطوعات الصغيرة التي قالها إبان مرضه ! يبدو هاجس الزمن في عدد من قصائده والعتبات المؤطرة لها ، وهي عتبات تكشف عن إيغال في فضاء الزمن ؛ وذلك في عناوين مثل ( أمام الأربعين ، في عامي الستين ، سيدتي السبعون )، وهو ذاته في متن القصيدة ، كقوله : (يا دميتي حاصرتني الأربعون مُدىً مجنونة وحراباً أدمت ِ العمرا) وقوله : (نمرُ فوق سنين العمرأفئدةً ظمأى يعشعشُ فيها الشعرُ والقلقُ) وقوله : (والأربعونَ عويلٌ ملء أوردتي وفي شفاهي يبكي الصيفَ واللبنا) كما نجد الزمن في كثير من خواتم القصائد ويتمثل هذا في قوله: (يؤلمني مرُ السنين كأنّها تشقّ بأضلاعي إلى حتفها الدربَا) وقوله:( ويرمقني المصيرُ وربّ حتفٍ يروعُ وفيه تحريرُ السجين) وقوله : (منَ الخمسين للستين قفرٌ يجرُ خطاي من آلٍ لآل) وقوله: (يرحلُ الأحبابُ، يمضي معهم عمرٌ كان يسرُ الناظرينَ) . هذا فضلاً عن نصوص كاملة يخترقها هاجس الزمن من بدايتها إلى نهايتها وكأنه معادل موضوعي للموت؛ كما في قصيدة (سيدتي السبعون) التي يقول فيها : ماذا تريدُ من السبعينَ يا رجلُ ؟ لا أنتَ أنتَ ، ولا أيامك الأول ُ جاءتك حاسرةَ الأنياب ِكالحة ً كأنما هي وجهٌ سلهُ الأجلُ إلى أن يقول : أواه! سيدتي السبعون ! معذرة ً بأيّ شيءٍ من الأشياء ِنحتفلُ ؟ أبالشباب ِالذي شابت حدائقُه ؟ أم بالأماني التي باليأس تشتعلُ ؟ أم بالحياة التي ولتْ نضارتُها ؟ أم بالعزيمة أصمتْ قلبَها العللُ ؟ أم بالرفاقِ الأحباء ِالألى ذهبوا وخلّفوني لعيش أنسُه ملل ُ ؟ يكشف هذا النص عن إحساس الشاعر المؤلم بالزمن ، فيستل من نفسه على مستوى الخطاب ضميرًا يخاطبه فيما يشبه العتاب على بقائه حتى قدوم السبعين ، التي جاءته كالحة ًحاسرة ًعن أنيابها ؛كناية عن أنها تنذر بالموت كالمنية التي تنشب أظفارها في جسد من كُتب عليه الموت كما صورها أبو ذؤيب الهذلي في قوله : وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيتَ كلَ تميمة لا تنفعُ ثم يعتذر للسبعين فليس ثمة ما يمكن الاحتفال به فقد ذهب كل شيء ! وفي النص تعرية للذات وكشفٌ عن ضيق وجزعٍ من رحيل الأحبة وبقائه وحيدًا يكابد عيشًا بائسًا مملاً. لكن إرادة الله هي التي أبقته حتى هذا العمر : تباركَ اللهُ ! قد شاءتْ إرادتُه لي البقاءَ ... فهذا العبدُ ممتثلُ ولأن الرثاء من أهم الأغراض الشعرية وأكثرها صلة بالنفس الشاعرة والتصاقاً بوجدانها ؛ فقد انبثق هاجس الموت في شعر غازي القصيبي مبكرًا ، ورافقه إلى أخريات حياته حين رثى نفسه في قصيدة حديقة الغروب ، وتلك المقطوعات الصغيرة التي قالها إبان مرضه ! فهو يتحرك من منظور واحد له السطوة وهو الموت ، وكلّ الكلمات التي شغل بتوظيفها تدل على اهتمامه بهذا الموضوع ، وقد تراوحت بين الخوف والحزن والتصبر ، لأن الموقف محكوم بأمر غيبيّ لا مناص منه إذ النهاية والموت قدر محتوم مهما طالت الآجال. وقد أكثر غازي من قصائد الرثاء / فرثى جدته وأباه وإخوته وأبناءهم وأصهاره وأصدقاءه ، يقول في إحدى قصائده : أودّعُ أحبابي بظاهر أدمعي وأكتبُ بالدمع الذي لا يُرى الكتبا ولا ريب أنه كتب أجمل قصائد الرثاء وأرقها ، وهاهو يؤكد أنها من أجمل ما قال : نخافُ لقيا الموت ِ، لكننا نقولُ أحلى شعرنا في الطعان ِ ويتشكل هاجس الموت من عناصر أخرى عدا سطوة الزمن ، منها عنصر الغروب الذي يوظفه بمعناه الفلسفي الذي يدل على الموت والنهاية ، نلمس هذا في عنوان قصيدته (حديقة الغروب) التي رثى فيها نفسه ، إذ تحيل مفردة الغروب إلى قرب النهاية التي كان يستشعرها. كذا عنصر الغياب الذي يتماهى نصياً مع الأفعال الأخرى في نسج دلالة الموت، ويتمثل هذا الفعل في رحيل الإخوة والرفاق واحداً إثر واحد كما في قوله : وفي كلِ يوم ٍراحلٌ بعدَ راحلٍ من الأهل ِ والأصحاب ِأودّعُه التربا وقوله : ترحّل إخواني فأصبحتُ بعدهم غريبا ًيتيمَ الروح ِوالقلبِ والفكر ِ وقد استخدم الصيغة المزيدة بالتاء والتضعيف من رحل ( ترحّل ) للدلالة على كثرة من غاب من أحبته الذين حوتهم القبور وهو بينها يلمُ عمره الذي يتبعثر مع كل غياب ، وكأنه يفقد شيئا منه مع فقد من يرحل : أنا بين القبور ألمّ عمري وأنتَ ذبالة ٌ خلفَ الضباب ِ فرغتُ من العذاب وعدت ُوحدي أكابدُ ما تبقّى من عذابي وتبدو القصيدة التي رثى فيها شقيقه عادل وهي من بحر الطويل وهو بحر تام يُعد من أنسب البحور لفن الرثاء إذ يتيح للشاعر التعبير عن خلجات النفس ، وهذه القصيدة فيما أرى من أجمل نماذج الرثاء لدى غازي القصيبي ، ورويها الألف ، وختمت قافيتها بوصل مفتوح : أخي ربّ جُرح في الأضالع ِ لا يهدأ أعانقُه والليلُ يمطرني سُهدا وأستصرخ ُالذكرى فتسكبُ صابَها ويا طالما استسقيت ُمن نبعها الشهدا ثم يتساءل أيّ سهميه هو قاتله ، سهم الغياب أم سهم بقائه وحيدًا : أخي! لستُ أدري أيّ سهميّ قاتلي غيابُك ؟ أم أني بقيتُ هنا فردا تفرّق أصحابُ الطريق ِ فلا أرى أمامي سوى اللحد ِالذي يحضنُ اللحدا ومفتاح هذه القصيدة كلمة أخي التي استهل بها قصيدته وهي منادى بحرف نداء محذوف مضاف إلى ياء المتكلم التي يرى بعض النقاد أنها أنسب الضمائر للتعبيرعن خلجات النفس . ومما يلحظ في هذه القصيدة تَكرار بعض الحروف على نحو لافت ، وأكثر الحروف تكراراً في هذه القصيدة (ياء المتكلم )التي وردت خمس عشرة مرة ، تليها( نا المتكلمين) إذ وردت ثلاث عشرة مرة كناية عن توحده في شقيقه وكأنهما شخص واحد ، ثم ( تاء الفاعل) التي تكررت اثنتيْ عشرة مرة . وبعد أن دفن شقيقه لم يجد من يبث إليه همومه وأحزانه إلاَّ هو فيناديه في مطلع المقطع الثاني: أعادلُ ! هل حقا ً تركتك في الثرى وأهديت ُ هذا القبر أنفسَ ما يُهدى وهل عدت ُ حقا للديار التي خلت وفياً لدنياي التي تخفرُ العهدا وتبرز في القصيدة ثنائيتان هما الماضي والحاضر ، فالماضي يحيل إلى الموت وما يقود إليه من تفجع وألم حسرة ، أما الحاضر فيحيل إلى حال الشاعر وما يعتوره من إحساس عميق بغياب الميت وشعور بالوحدة ، وهذه الثنائية تجسدها الأفعال الماضية والمضارعة ، ولعل لجوء الشاعر إلى الذكرى هو ما دفعه للإكثار من الأفعال الماضية التي ازدحمت بها أبيات القصيدة، وكأنه يؤكد وقائع عيشه الهنيء مع شقيقه وإحساسه المؤلم بفقده ، ومنها : استسقيتُ ، بقيتُ ، تفرّق ، تماسك َ ، هُدتَ ، تركتك ، أهديتُ ، عدتُ ، خلتْ ، مضيتَ ، قضينا ، لبسنا ، سلمتنا ، أكدت ، بكيت ُ ، ثوى ، أجهش ، استوطن ، غاب، فقدتُ . لكنه حين يصف حاله بعد فقد شقيقه يستعين بالأفعال المضارعة ليبين وقع المصيبة عليه منها : أعانقه ، يمطرني ، أستصرخُ ، تسكبُ ، يحضنُ ، تفدي ، أصونُ ، يهدى ، تخفرُ ، يهب ُ ، أصطلي ، أشكو ، أكابدُ ، يحصدنا. ويحرص الشاعر على تسجيل موقفه الطبيعي أمام الموت الذي يحصره في الفقد والدموع والرثاء : على كل قبر ٍ من دموعي قطرةٌ وقافيةٌ تفدي المودّعَ لو يُفدى فعند كل قبر سكب دموعاً ، ورثى صاحبه بقصيدة ضمّنها كل ما تحمله نفسه من ألم وحزن وذكريات جمعته بالراحل . لكنه يجد في بكائه ضعفاً يحرص على ألا يراه الآخرون فيبالغ في تماسكه : أصونُ عن الأنظار ضعفي وربما تماسكَ من هُدت قواعدُه هدّا وهذا التماسك يدفع ابنه للتساؤل : يقولُ سهيلٌ :" ما لعينك لم تَفضْ ؟ " فقلت له " أكدت .. وقلبي ما أكدى" وأنه بكى أخاه بكاء ليس كالبكاء : بكيتُ أخي حتى ثوى الدمعُ في الحشا وأجهش َصدرٌ أصطلي نوحَه وجدا فمن أجله الدمعُ الذي سدّ محجري ومن أجله الدمعُ الذي استوطنَ الكبدا وفي هذا دلالة على عمق الحزن الذي يشعر به ، والألم الذي يكابده، والإحساس الذي يتملكه ، حتى صار دمعه يسد محجره ويستوطن كبده ويصطلي بوجده . ولهذا نجده يكثر في هذه القصيدة من النداء ؛ فقد تكرَّر سبع مرات ، نادى بثلاث منها الفقيد (مرتين ناداه أخي مع حذف حرف النداء ، وثالثة ناداه باسمه : أعادل) ، وأربع مرات وجه النداء لربّه مكررا نداءه ليظهر انكساره وضعفه أمام قضاء الله منها قوله : يا ربّ نوّرْ بالقبول ضريحَه وأسكنه روضاً في جناتكَ ممتدا ويارب ّ هل للعبد إلاكَ ملجأ ويا ربّ هل إلاك من يرحمُ العبدَا ، فكأن الشاعر بعد تأكده من الفقد والفراق أصبح لا يملك وسيلةً أخرى يستأنس بها في وحدته غير مناداة شقيقه والابتهال إلى الله بالدعاء . وعلى هذا المنوال تتوالى أبيات القصيدة التي تفيض بلوعة الحزن الملتهب وتدل على أنها صادرة عن شاعرية قادرة على تصوير الأحزان وتجسيد المآسي، إلى جانب رسم المشاهد وفق نمط يجعلها ناطقة بالحدث مستوفية لمعالم الصورة . إنه الموت روتين الحياة كما عبر عنه غازي بقوله : وننتهي وتدورُ الأرضُ دورتَها وننتهي ويعودُ الفجرُ والغسق ُ