استقبل المهاجرون والأنصار خالد بن الوليد وجيشه المنسحب من مؤتة بالحجارة والتقذيع والتعيير.. فوقف سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام -وهو النبي- موقفاً قيادياً منع فيه العواطف وسوء التقدير وخطأ الحكم من أن تقود تصرفات وأحكام الشارع المسلم إلى أن يظلموا إخوانهم الأبطال.. كما قطع الطريق على المنافقين والشعبويين من استغلال العواطف لمصالحهم الخاصة.. فيغمدوا سيفاً من سيوف الله، ويخلقوا في قادة الجيش المسلم خوفاً ورهبة من الشارع، فيمنعهم من اتخاذ القرارات الصحيحة مستقبلاً. ودور القائد والمفكر، دور غائب نسبياً في الشارع السعودي عند مثل هذه المواقف؛ فيندر أن تجد من يواجه اتجاه الشارع في اندفاعه العاطفي الخاطئ تجاه قضية ما، والذي يذكيه الشعبويون وأصحاب المصالح. غياب هذا الدور من القائد والمفكر مع حداثة تعامل الشارع مع حرية الرأي ونقد المسؤولين، يجعل الشارع ينشغل بقضية قد تكون هامشية وينصرف عن قضايا أخرى مهمة.. أو ترى الشارع يحمل هم قضية مهمة، ولكن ليس بالمطالبة بالإصلاح، بل بزيادة الطين بلة وبالأمر سوءاً. فتجده يطالب بتنحية وعقوبة من بذل نفسه كفاءة ووقتاً في حمل هم إصلاح القضية ومسبباتها.. من عمل كثيراً أخطأ كثيراً وفاته كثيرٌ، فتجد الشارع السعودي بحداثة عهده في حرية الرأي وبغياب دور العقلاء يتوجه ضد العامل، بينما ينام عن النائم ويجهل عن الفاسد. فوزارة الصحة حملت إرثاً ثقيلاً بعد السنوات العشرين العجاف التي مرت على المملكة، كما حملت -كغيرها من الوزارات- مشكلة مهنية العامل السعودي وجديته وانضباطيته في تنفيذ الإجراءات.. والشارع السعودي هو نفسه الذي حمل على وزير الصحة في امتناعه عن توظيف السعوديين الخريجين من المعاهد الصحية حتى يُعاد تأهليهم. خطأ رهام هو خطأ سعودي، وبأيد سعودية، وهو يحصل في كل بلاد العالم.. وهو على خطورته وأهميته، إلا أن الشارع لم يُقدر التقدم المهني والأخلاقي الذي حدث في الإفصاح والاعتراف بالخطأ.. وعدم وقوع السيئ المتوقع وقوعه بسبب الجهود الوقائية لا يقدره إلا العقلاء. فمثلاً الإجراءات التي تتخذ لمنع وباء فلا يقع الوباء يجعل كثير من الناس يتندر بها ويسخر بمن عمل على منعه وينسج بعضهم أساطير المؤامرات حولها.. وما درى هؤلاء الغوغائيون أنه لم يقع الوباء إلا بسبب الجهود التي بذلت لمنعه. ومن يدري كم من الحالات الطبية المأساوية التي سُكت عنها قديماً ولم تعد موجودة بسبب جهود الوزارة الحالية وشفافيتها.. ويجب هنا أن نسجل شجاعة المتسبب في الإبلاغ الفوري، مع احتمالية أن لا ينتبه له أحد إلا بعد ضياع الأدلة الموصلة للمتسبب.. ويجب هنا أن ندرك أهمية السعودة في الخدمات الإستراتيجية. فالأجنبي قد يسكت ويغادر البلاد قبل اكتشاف الأمر. استقالة المسؤول بدون سبب حقيقي كعجزه أو خطئه خطأً فادحاً مسؤولاً عنه مباشرة، هو تصرف انسحابي تخاذلي مشين لا يليق بالإشراف، وهو كهروب الفرسان من قيادة المعركة، فالقائد هدف الأعداء. وقد رفض كثير من الرؤساء العظام والوزراء المميزين أن يستقيلوا بسبب فضائح كبيرة هم مسؤولون عنها، ولكنهم ارتأوا أن استقالتهم هو أمر سيزيد الطين بلة. وقد أعاد الأمريكان انتخاب الرئيس الأسود الذي لم يفِ بوعوده الإصلاحية الاقتصادية ولم يقلل من البطالة على مدى أربع سنوات.. ولم ينطلِ على الأمريكان الدوافع السياسية والدينية والعنصرية التي كانت وراء الحملات الإعلامية المضللة التي تتهم الرئيس بفشله في إدارة اقتصاد أعظم دولة رأسمالية، والتي يشكل الاقتصاد والبطالة أهم عامل فيها لانتخاب الرئيس.. أدرك المُنتخب الأمريكي أن مشكلة الاقتصاد التي ورثها أوباما هي أعظم من أن تحل في أربعة سنوات.. كما أدرك أنه وإن كان الاقتصاد لم يتحسن إلا أن جهود الرئيس قد منعت دخول البلاد في كساد عظيم. الشارع الأمريكي قديم في الديمقراطية، وعقلاؤهم يتحدثون لتوعية الناس، فهو يُحسن التفريق غالباً بين النقد الغوغائي الهدام وبين النقد العقلاني البناء. ولذا أعيد انتخاب الرئيس الأسود وهو لم ينفذ من وعوده التي وعدها شيئاً لتقدير الأمريكان لجهوده في دفع العجلة الاقتصادية، وأنه مهما كانت درجة المؤسساتية في النظام الأمريكي إلا أن خروج الرئيس اليوم سيهدم كثيراً من جهوده، ليعود الاقتصاد إلى الخانة الأولى بتجربة جديدة على يد رئيس جديد. وقد خالف الأمريكان مبادئهم الديمقراطية فأعادوا انتخاب الرئيس الأمريكي روزفلت أربع مرات رغم مرضه وشلله حتى مات وهو رئيساً لأمريكا، لأن البلاد آنذاك كانت تمر بمراحل عسكرية واقتصادية خطيرة. ووزارة الصحة اليوم تمر بمرحلة تأسيس نوعي وكمي لمستقبل صحي واعد شفاف، وهي تجاهد في شق طريقها المليء بالمعوقات السياسية والبيروقراطية والاجتماعية والثقافية، وأي هزة قوية للقيادة فيها يؤخر المشروعات الطبية المستقبلية. إن حرمان الشارع السعودي لعقود زمنية من المعلومة ومنعه من نقد المسؤولين وفرض السكوت عن أخطائهم يدفع ثمنه اليوم المسؤولون الأكفاء العاملون، كما يدفع ثمنه المجتمع بتقييده للكفؤ العامل خوفاً من الشارع الذي يُحركه غالباً في أكثر القضايا أصحاب المصالح الخاصة والشعبويين والحسدة والعاجزين لصرف الشارع عنهم ولتشتيت جهد العاملين الأكفاء. [email protected] تويتر@hamzaalsalem