كان والدي كثير التنقل، حتى أنني لا أفلح في تذكر عدد البيوت التي سكنّاها. وبحكم طبيعة أهالي الواحات -لأن الأحساء واحة- وما تلقيه عليهم من طراوة الطباع والائتلاف، كان والدي يختار غالبا الأماكن التي يتجاور فيها أشباهه من الأحسائيين تُجار الذهب. سواء في الأحساء أو الدمام أو الرياض أو الكويت الذي سكن فيهم جميعاً. فكُنا نحظى على حياة اجتماعية غنية بالزيارات والمناسبات الصاخبة والصداقات أينما حللنا. لكنني لا أدري حقيقة أي عرق دسّ لي فخلّف بي عشقاً للهدوء والعزلة منذ صباي. وأذكر جيداً كيف أن والدي -رحمه الله- كان يخترق الهدوء المُكدس في غرفتي بعد مدة اختفاء طويلة، ويقول: الوحدة لله يا بنتي!. وبقي الهدوء حُلماً أثيراً عشعش في طيات سكوني. حتى أنني حلمت كثيراً بأن أجد يوما ما مكاني القصيّ المنعزل عن صخب المدن والقيود الاجتماعية الخانقة. تماما كما فعل «كريس ماكندلس» الشاب الأمريكي الذي هجر حياة المُدن وطفق للبرية يمارس فيها حياته عائداً لأحضان الطبيعة. حُلمي الذي أبدع في تصويره المُخرج المذهل «شين بين» في فلمه « في البرية into the wild» المقتبس من قصة ماكندلس الواقعية. والآن حين سكنتُ في أحد أحياء الرياض الحديثة، شعرت أنني أقترب من حُلمي قليلا. حيث الهدوء الكبير تلقفني في أحضانه، هنا حيث لا يُعكر الصفو أصوات تفحيط سيارات ولا صراخ الفتيان في ملعب قريب ولا أنسى هبوب الثمامة الذي يعبر إلينا نقياً من تلوث المصانع. وقد أمضيت شهورا مُقتطعة من الجنة لولا الضيف الجديد الثقيل الذي طردني منها!. سمعتُ نباحه أول مره في المساء، كنت وقتها أحضر لنفسي كوباً من قهوة ساخنة وأرذ قليلا من القرفة على وجهها كطقس جميل أبدأ به مساءً وادعاً في حينا الغافي على بركة خاشعة من الهدوء!. قلت في نفسي: عابرٌ يُنزهُ كلبه. لكن النُباح عاد ليلةً أخرى!.. ثم صار يقض هدأتي ويعكر أوقاتي حتى أصبح كما لو أنه يعيش في داري. فدفعني الفضول لأن أتبع مصدر الصوت سارحة في تصوراتي لهذا الكلب المزعج صاحب النباح الغاضب والمُدوي. فتخيلته كلباً فاحم السواد بثلاث رؤوس مثل سربروس الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية. لكنني تفاجأت -عندما فتحت النافذة- بكلب صغير الجسم، ذي عينين لامعتين مسكونين باللطافة، وكُدت أن أقع في غرامه لولا أنه مذ انتبه لي جُن بالنباح، فاضطربت كثيراً وشعرت بأني لص وقع في براثنه أخيراً.. أغلقتُ النافذة وأنا ممتلئة بالحنق والأسئلة: - لماذا ينبح كلب وحيد في ساعات متأخرة من الليل؟ - إذا كان فائدة الكلب الحراسة، فكيف يميّز صاحبه نباح التحذير من النباح العابث الليلي الذي لا يكف؟ - ألا تنتهي حريتك في امتلاك كلب إذا أصبح يستلب حرية الآخرين في ألا يمتلكونه؟ خصوصا إنك لو وضعته خارجاً وكل ما يفصل بينه وبين جارك جدار كما لو أنك تُعيّش كلبك في بيوتهم! و الآن حقيقة كل ما أفكر فيه كيف أبلغ جيراني الطيبين أن كلبهم دمّر قلعتي المكينة وسرق شرودي وخدش طمأنينتي خدشاً فاتكا؟! ماذا لو تم استبدال الكلب بديك؟ يترك ليلنا هادئا ثم يصيح حين يستفيق مع فلول الفجر فيوقضنا للصلاة؟! ننام ليلنا ونصلي فرضنا! [email protected]