إن عملية الإدراك الذاتي أصعب بكثير من إدراك الخارج. لأنك تطلُّ على ذاتك من مسافة لصيقة، من داخلك. والحقائق لا يمكن أن تُرى بأبعادها الواقعية إلا من خلال النظر إليها من مسافة كافية. البُعد والقرب سيّان، كلاهما لا يعطيان انعكاساً مقارباً للأصل. لماذا علينا أن نفهم ذواتنا؟. لأننا في حال غياب الوعي بالذات لن نتمكن من تشخيص النقاط الواهنة وتقويتها, أو استثمار نقاط القوة لتفعيلها في تطوير نشاطنا المجتمعي أو أدائنا في بيئة العمل. في عام 1955 قام كل من جوزف لوفت وهاري إنجام بابتكار نموذج يهدف للإدراك النفسي ويأخذنا من خلال التركيز على المشاعر، التجارب، وجهات النظر، المواقف، المهارات، النوايا، الحوافز وغيرها لفهم أفضل للذات. أطلق على هذا النموذج اسم نافذة جوهاري (johari). تتضمن أربع نوافذ يُشرف منها الفرد على نفسه: 1 - المنطقة الحرة (Open Area)، وتتضمن التصور الذاتي للنفس من خلال فهمنا لمدركاتنا وقيمنا وشخصياتنا ومميزاتنا. أي ما نشترك نحن والآخرون في معرفته عن ذواتنا. أو ما أسميه» الظاهر». 2 - المنطقة العمياء (Blind Area) تتضمن صورتنا من زاوية الآخر، كيف يقرأنا؟ كيف يفسر أفعالنا؟ ما هو الأثر الذي خلفته سلوكياتنا لديه؟ ما هي الجوانب التي يراها الآخر من زاويته ولا نراها؟! إنها نافذة لما يعرفه الآخرون عنا ولا نعرفه. 3 - المنطقة المخفية/ القناع (Hidden Area) تتضمن ما يعرفه الفرد عن نفسه ولا يُشرك الآخرين في معرفته، لأسباب عرفية أو أخلاقية أو دينية: أخطاؤنا، أسرارنا، أمنياتنا، نقاط ضعفنا، مخاوفنا.. الخ. أو ما أسميه «الباطن». 4 المنطقة المجهولة (Unknown Area)، وتتضمن انعدام المعرفة للذات من جهتنا ومن جهة الآخرين أيضاً. وهي تفسر مجمل تلك السلوكيات ذات الدوافع الغامضة، جاذبيتنا، علاقاتنا.. الخ. وبالطبع كل منا لديه هذه النوافذ لكن تختلف نسب إتساعها من شخص لآخر. الأشخاص المنفتحون تكون لديهم المنطقة الحرة واسعة، لأنهم متصالحون مع أنفسهم ومع الآخر، فتتقلص الأسباب التي تعيق إشراك الآخرين في تفاصيلهم الخاصة وأفكارهم ومشاريعهم وتجاربهم. ويكثر هؤلاء في الأوساط التي تدعم تعدد الثقافات وقبول الآخر. أما اتساع المنطقة العمياء فتعني تخبط الحكم المنطقي على الذات، وتشوش الصورة الواقعية عن الذات، وتكثر في الأوساط المُغيَّبة التي تعيش حالة من التعتيم، بحيث تكون صورة الفرد عن أناه إما مضخمة أو مُصغرة، سببها قراءة خاطئة للآخرين له أو تعمد جهة معينة بث ثقافة التشويش بهدف السيطرة أو الاستغلال. يفرض تلك النظرة الأبوان أو الرئيس أو القيمون على المجتمعات. سواء كانت الصورة سلبية أو إيجابية. ويعتمد الأمر على ما يخدم الاتجاه. أما لو اتسعت منطقة القناع فستهبنا قراءة لنفسية فرد يعيش في وسط صارم متحفظ وقمعي، لا يؤمن بالاختلاف ولا يعنى بحرية الرأي والاختيار. وهؤلاء من نسميهم بالمصطلح الديني: «منافقون». وهم شخصيات ضعيفة مقابل النبذ والاقصاء، فيعمدون لإخفاء شخصياتهم في أعمق نقطة لا يصل إليها الآخر. فإذا رافقها ضيق ملحوظ في مساحة المنطقة الحرة فهذا يعني أن ما يعرفه الناس عن الفرد أقل بكثير من تلك الصفات التي يعرفها عن نفسه أو مختلفة عنها. وهو ما يشار إليه في المنظور الديني تمايز الظاهر والباطن. وهو فشل ذريع في اختبار تطوير الذات. هناك عدة فوائد مترتبة على نافذة جو هاري، وتطبيقاتها عديدة ونافعة. فمثلاً يمكن لمن اتسعت المنطقة العمياء عنده، أن يستفيد من الموثوق بهم في فهم صورته الظاهرية لدى الآخر. والشروع في تصحيح أخطائها. وبالطبع كأي مشروع لتطوير الذات هناك سلبيات لنافذة جوهاري أن هناك أموراً شخصية يُفضّل أن لا يعرفها الآخرون كالمشكلات الاجتماعية أو حالات الإخفاق واسعة النطاق. كما أن الانفتاح على الآخرين قد يدفعهم للتوصل إلى أسرارنا أبعد مما نرغب. [email protected]