عني الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي بمطالع قصائدهم كثيراً، فعملوا على انتقاء هذه المطالع، وتهذيبها، والحرص على قوتها وجزالتها، ومدلولاتها؛ ذلك لإدراكهم أن مطلع القصيدة، يعد بمثابة البطاقة لعبورها إلى قلب المتلقي. والمستقرئ لتاريخ الشعر الجاهلي، يدرك كيف أتخذ الكثيرين من الشعراء في تلك الحقبة من الوقوف على الأطلال مطالع لقصائدهم، ومن أشهر تلك المطالع التي وقف بها الشاعر الجاهلي على الأطلال، مطلع معلقة أمرؤ القيس، يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل وأيضاً أتجه الشعراء في العصر الجاهلي، وحتى بداية صدر الإسلام، للاستهلال لقصائدهم بالغزل أو ذكر المتيمة، ومن ثم الاتجاه لغرض القصيدة الرئيس، ومن أشهر القصائد التي أخذت هذا المنحى، قصيدة الشاعر المخضرم كعب بن زهير التي عرفت بقصيدة (البردة)، والتي كتبها كعب معتذراً فيها للرسول صلى الله عليه وسلم ومعلناً دخوله في الإسلام. فنجده يقول في مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم أثرها لم يعد مكبول و ما سعاد غداة البين إذ رحلو إلا أغن غضيض الطرف مكحول ومن ثم نجد أن هذه المطالع أخذت بالتنوع والتعدد في العصور اللاحقة لعصر صدر الإسلام وما تلا ذلك من العصور الأموية والعباسية والأندلسية والعصر الحديث. وما يعنينا في مطالع القصائد على وجه التحديد في موضوعنا هذا، هو مطالع القصائد الشعبية، وبالأخص في الجزيرة العربية، وما ارتبط منها بالمدرسة التقليدية حتى بداية الثمانينات من القرن الهجري المنصرم، وأنا هنا لا أسعى إلى حصر أشكال وأنماط هذه القصائد، بقدر ما أحاول استقراء أشهر استخدامات أنماط هذه المطالع. فنجد أن مطالع القصائد النبطية، تنقسم من حيث النوع، إلى قسمين: الأول: مطالع مباشرة، وهي التي تتوجه فوراً إلى صلب الموضوع. الثاني: مطالع تمهيدية، وهي التي تمهد للوصول إلى موضوع القصيدة، وتعمل على التقديم له. ومثال المطالع المباشرة، مطلع قصيدة الشاعر محمد الدسم، وهي القصيدة التي اشتهرت بلقب (أم الوصايا)، وكان موضوعها في النصح، ونجد أن الشاعر محمد الدسم، بدأ قصيدته بمطلع مباشر؛ لعدم حاجته لتمهيد لموضوعها، يقول: يا خوي. لك عندي. وصاةٍ مصيبة ترى وصاتي تلمس العقل.. وتصيب ترى وصاة اخوك.. ما به معيبة لى صار اخوك.. مكمَل العقل ومنيب وأيضاً مطلع قصيدة (البارحة يوم الخلايق نياما) للشاعر محمد بن مسلم، والتي تنسب بالخطأ للشاعر نمر بن عدوان، وفي هذه القصيدة يتجه الشاعر إلى مطلع مباشر؛ يترجم حزنه على فقد زوجته بغرض الرثاء، فيقول: البارحة يوم الخلايق.. نياما بيَحت من كثر البكا.. كلَ مكنون قمت اتوجَد وأنثر الما على ما من موق عينٍ دمعها كان مخزون ومن أمثلة القسم الثاني، وهي المطالع التمهيدية، أو الغير مباشرة، مطلع قصيدة (إن جاد حظَك) للشاعر محمد بن عون، والتي يتحدث فيها عن دور الحظ في حياة الإنسان، فكان من المناسب له أن يبدأ بمطلع تمهيدي؛ لأن المباشرة في المطلع لا تخدم موضوع القصيدة، فنجده يقول في مطلعها (التمهيدي): يالله.. ياللي كل حي يسالك يا واحدٍ كلَ يخافك ويرجيك يا قاسم أرزاق الملا من نوالك قبضة نواصي الخلق كلَه بياديك وأما من حيث أنماط هذه المطالع، فمن خلال تتبع تاريخ القصيدة النبطية، نجد أن أشهر استخدامات مطالع هذه القصائد تندرج تحت الأنماط التسع التالية: المطالع الروحانية وهي المطالع التي تتسم بصبغة روحانية دينية، يفضل الشاعر خلالها الابتداء بذكر الله وتوحيده والابتهال إليه، ونجد أن هذه المطالع واسعة الانتشار في تراثنا النبطي؛ لأنها مستمدة من ثقافتنا الإسلامية السمحة، وبيئتنا المحافظة. من أمثلة هذه المطالع. قول الإمام فيصل بن تركي آل سعود (رحمه الله): الحمدلله جت على حسن الاوفاق وتبدلت حال العسر بالتياسير جتنا من المعبود قسام الأرزاق رغم على الحساد هم والطوابير ومنها أيضاً، قول الشيخ مشعان الهذال: يا الله يا مدير الهبايب والادوار شانك عسى تصريف شانك لنا خير يا الله يا عالم خفيَات الأسرار يا معتني بالخلق والي المقادير مطالع النسبة للشاعر وفي هذا النمط من المطالع، يستهل الشاعر قصيدته بنسبة القول لشخصه من باب الاعتداد بالنفس وهي من المطالع الذائعة الانتشار في تراثنا كسابقتها، وهي أما أن ينسب الشاعر القول لنفسه بصيغة صريحة، ومن أمثلة ذلك، قول الشاعر فراج بن ريفة: قال ابن ريفة. بدا في مرقبٍ عالي باعلى المراقيب تومي بي هبايبها ومن ذلك أيضاً، قول الشاعر ابن سدران: قال ابن سدران يهيض مثايل أحلى من الذاوي ومن طلع العنب وأما ينسب الشاعر القول لنفسه بصيغة صفة فعل الشيء، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر محمد الأحمد السديري: يقول من عدى على رأس عالي رجمٍ طويلٍ يدهله كل قرناس ومثل ذلك، قول الشاعر جحيش السرحاني: يقول الذي يقرا بليَا مكاتيب ياللي تقرَون العمى من عناكم ومن ذلك أيضاً، قول الشاعر منديل الفهيد: قال من يبدع للأمثال المفيدة بالتجارب شاف والماضي درابه مطالع مسندة لراكب الراحلة وهي من المطالع المشهورة في التراث الشعري، ولها نماذج وأمثلة كثيرة، حيث يستهل الشاعر قصيدته بمطلع يوجهه لراكب الراحلة التي يحمل راكبها قصيدة الشاعر أو رسالته لشخص ما، وذلك قبل الشروع في موضوع القصيدة المباشر، ومن أمثلة هذه المطالع. قول الشاعر صقار القبيسي: يا راكبِ حرَ من الهجن مذعار مامون قطَاع الفيافي معنَا يسبق مطافيق القطا. حين ما طار فوقه غلامِ. يوصل الهرج منَا وأيضاً قول الشاعر خلف أبو زيد: يا راكب اللي كنَها سلوعة ذيب حمرا. ولا عمر الحويَر غذى به يا راكبِ حمرا تسوف العراقيب حمرا تسوف كعوبها في سبيبه إلى هنا نتوقف هذا الأسبوع، وسنكمل بقية الأنماط الأسبوع القادم بمشيئة الله، وستكون بدايتنا مع المطالع المستهلة بظرف الزمان.