حين يترجم الشعر النبطي من لغته الأصلية إلى لغة أخرى فإنه يترجم كأي نص عربي آخر، أي تتم ترجمة القصيدة بشرح أبياتها بيتاً بيتاً، وربما كانت الترجمة حرفية فتمسخ معنى القصيدة مسخاً، ولقد علم بعض المستشرقين الذين تعاملوا مع الشعر النبطي كجورج أوغست والين، أن نقل النص الشعري من لغة إلى لغة ليس من السهولة بمكان، لأنه يفقده رونق الشاعرية تماماً ويحوله إلى نص جامد بلا روح تنقصه دقة التعبير مما يقلل الاستفادة منه في دراساتهم الأنثروبولوجية فعملوا على كتابته كتابة صوتية بلغتهم مع إثبات النص الأصلي وترجمته بعد ذلك، والكتابة الصوتية من ضروريات الدراسات اللغوية عموماً، وللتوضيح سأورد مثالاً على هذه الطريقة التي سار عليها الدكتور سعد الصويان في كتاب باللغة الانجليزية عنوانه: (Historical Narrative The Arabian Oral ) حيث ورد قول الشاعر رشيد بن طوعان: حِرٍّ شَهَر بس الزِّمامِيل والخيل يْدَوِّر مِقانِيصه بْغِرَّات الاجْناب فجاءت الكتابة الصوتية التقريبية لهذا البيت باللغة الانجليزية بهذه الصورة: Hirrin sahar bass az-zimamil wa-l-kel Ydawwir miganisih b-girrat al-ajnab في حين جاءت ترجمة البيت باللغة الإنجليزية بهذه الصورة: A wild hawk took off, leading only cameleers and horsmen, Sccking his prey among unsuspecting enemies. ويمكن للقارئ الكريم المقارنة بين هذه الصور الثلاث ليلاحظ صعوبة الموضوع ولكن الأكثر صعوبة هو إعادة الترجمة مرة أخرى من اللغة الانجليزية إلى العربية في ظل انعدام الكتابة الصوتية والنص الأصلي حيث سيخرج نصاً هجيناً بعيداً كل البعد عن النص الأصلي وهذا ما رأيته في نصوص القصائد الواردة في كتاب (بدو وسط الجزيرة العربية) الذي كتب عنه زميلنا الرائع بداح السبيعي في هذه الصفحة ( العدد 15287) وهو الكتاب الذي ألفه الألماني جوهن جاكوب هيس وترجمه محمود كبيبو مؤخراً مع العلم أن لغة الكتاب الأصلية هي الألمانية وسأكتفي بمثالين من هذا الكتاب تكشف أن إعادة بناء القصيدة النبطية بعد ترجمتها إلى لغة أخرى عملية مستحيلة ما لم تحظ بمترجم أو مراجع ذي خبرة بالشعر النبطي يتلمس النص الأصلي في مصادره الأصلية على ضوء بعض القرائن كمعرفة اسم الشاعر أو معرفة قصة القصيدة أو ما شابه ذلك؛ والحقيقة أنه رغم معرفة اسم الشاعرة وشهرة القصيدة في المثال الأول الذي سأعرض له إلا أن المترجم والمراجع لم يكلفا نفسيهما عناء البحث والسؤال للوصول للنص الأصلي بل إن الشاعرة (المرهوصة) لا يعرف لها غير هذا النص المتداول بين الناس والمدوّن في عدد من المصادر المطبوعة . المثال الأول: قصيدة المرهوصة في الصفحة 96 من الكتاب وقد ذكر المؤلف أنها بنت سليمان الدسم من الدعاجين من عتيبة واسمها كما ورد في المصادر الأخرى(قمراء) وجاءت القصيدة في ستة أبيات مشروحة وهو نفس عدد الأبيات في المصادر الأخرى وقد تحدث الزميل السبيعي عن هذه القصيدة ولكني سأعيد الحديث عنها مرة أخرى حيث جاء البيتان الأولان على هذه الصورة : 1 نمت في المساء وكان لي قلب ولما استيقظت في الصباح رأيته مسروقاً، طلبت من أحد أصدقائي إعادة قلبي لي لكنه رفض. 2 آه من اضطراب قلب تدقه لوعة الشوق كالحديد الملين في النار تحت ضربات المطارق. وأصل البيتين كالتالي بغض النظرعن الترتيب حيث إن المصادر تورد البيت الثاني أولاً : أمسيت قلبي في وأصبحت مسروق وثوّرت في قلبي عميل ٍ وعيا يا قلبي اللي من هوى زيد مطروق طرق الحديد ملين ٍ بالضويا وفي حين يرد البيت السادس بهذه الصورة: 6 ضحّى من أجلك بذلك الذي يسير على الأرض وبعدد أولئك الذين يرون القمر وبمجموعة النجوم السبع. غلاف كتاب بدو وسط الجزيرة فإن أصله كما يلي: ويفداه من يمشي على الأرض من فوق واللي يشوفون القمر والثريا فهذه القصيدة ترجمت أولاً من اللغة العربية إلى الألمانية ثم أعيدت مرة أخرى إلى اللغة العربية مع احتمال أنها ترجمت من الألمانية إلى لغة أخرى كالإنجليزية مثلاً ثم أعيدت ترجمتها مرة أخرى إلى العربية لأن المترجم لم يوضح اللغة التي ترجم منها ولأن المترجم بعيد عن البيئة فمن الطبيعي ألا يستطيع الوصول إلى النص الأصلي ولكن أين دور المراجع ؟! المثال الثاني: القصيدة الواردة في الصفحات 97، 98، 99 وجاءت تقريباً في سبعة عشر بيتاً مشروحاً غير منسوبة لقائلها ولكن بعد البحث والتحري تأكدت أنها من قصائد الشاعر مخلد القثامي وقد وردت هذه القصيدة في عدد من المصادر المطبوعة والمخطوطة وسأورد منها هنا عشرة أبيات فقط معتمداً الترتيب الوارد في كتاب هيس مع مراعاة أن ترتيب الأبيات في أصل القصيدة مختلف ومرد ذلك إلى اختلاف الرواية التي سيلاحظ القارئ أثرها في بعض الأبيات وسأورد الترجمة أولاً ثم أعقبها بالأبيات الأصلية والتعليق عليها: إذا لم تتبرد نيران قلبي الملتهب فإنني سأصبح مثل الجمر المتقد عند نهاية عود الإشعال. ذلك المرافق الذي يبدل ساقيه على السرج ذي الخشبات المتصالبة المنحنية يفتح لي صدره(قلبه). لو لا إني اجلا عن ضميري لواهيب في كنة الغليون في راس مرقاب وملاوحي بأكوار شيب المحاقيب لغدا حريقة نار في راس مشهاب وستلاحظون أن مفردة (أكوار) أصبحت في الترجمة( السرج ذي الخشبات المتصالبة المنحنية)!! قد يوبخك ذلك الذي لا يعرف واجبه، شخص لا مبال مسلح بعصا قيادة الجمل لا غير. يلومني بالحب خطو الدباديب خطو الدحوش اللي تعصا بمشعاب فمفردة (مشعاب) في البيت أصبحت بعد الترجمة (عصا قيادة الجمل)! ذلك الذي يجمع الحطب للفتيات المترددات وذلك الذي تجعله الفتيات البيض جامع حطب عندما يرتحل القوم. يفداه من لم الحطب للخراعيب خطو السدوح اللي عيونه للأقراب ولا أدري كيف تمت ترجمة (الخراعيب) بصفة عامة إلى (المترددات)؟! مع العلم أن التعبير بلفظة خرعوب في الشعر النبطي حسب معرفتي يأتي في العادة كناية عن الفتاة حسنة القوام تشبيهاً بالغصن اللين! تنهداتي كتنهدات الجمال الضائعة التي ضلت الطريق والتي يدفعها إلى الأمام الحر الشديد عند طلوع الجوزاء. ويالجتي لجة قطيع مناهيب في كنة الجوزا حداهن ملهاب التي ترشف عند بئر الماء القذر على الجوانب لأن الماء قد غار بحيث أن الناس يخشون النزول في البئر لإخراج الماء. على القليب يرشحن المغاريب العد مقطع والحدادير هياب تنهداتي كتنهدات (كصرير) عجلة سحب الماء من البئر التي تديرها نياق بيضاء اللحية، غير ملقحة ولم تروّض بعد. يالجتي لجة محال على شيب شيب اعداوه عفتوهنه اصعاب لقد تمت ترجمة مفردة(شيب) إلى (نياق بيضاء اللحية) فهل رأيتم يوماً ناقة بلحية!! سواء كانت بيضاء أو سوداء !! أما أنا فلم أر ذلك في الإبل حتى الآن على الأقل!! ولا أدري لماذا اتجه المترجم إلى اللحية ولم يتجه إلى الغوارب مثلاً!! التي تسحب حبال الماء عندما تتحرك الدلاء صعوداً ونزولاً في البئر التي يبلغ عمق مائها ثمانين باعاً . تقفي وتقبل به طويل المجاذيب في عيلم طوله ثمانين بحساب تنهداتي كتنهدات الهاون الموجود عند كل شارب قهوة ، كتنهدات هاونات قافلة الحجيج بكاملها. أو لجتي لجة نجور تواعيب لجة نجور الحاج مع كل شراب تنهداتي كتنهدات الذئب في الغسق، الذئب الذي يأتي عاوياً بحزن في الصباح الباكر. جورج أوغست أو لجتي لجة مع الغبشة الذيب لجلاج ذيب يرفع الصوت قناب وهكذا نلاحظ من خلال هذين المثالين أن الترجمة تظهر القصيدة النبطية بصورة منثورة مختلفة الدلالات والمعاني فإذا أعيدت ترجمتها إلى أصلها مرة أخرى فلن تنتظم كقصيدة بل ستتناثر وتفتقد روحها وإن احتفظت ببعض معانيها ولذلك فيجب عند ترجمة الشعر النبطي إلى لغة أخرى إدراج القصائد بلغتها الأصلية فإن لم يكن فيجب كتابتها كتابة صوتية مع الترجمة حتى يمكن أن تعكس حقيقة الشعر النبطي ودلالته الثقافية والاجتماعية واللغوية. لقد كان إطلاعي على ترجمة كتاب (بدو وسط الجزيرة) هو الباعث على كتابة هذا الموضوع لما رأيته من التشويه للقصائد النبطية بسبب غربلتها أكثر من مرة عبر الترجمة المعنوية والحرفية وعدم محاولة المترجم أو المراجع على إعادتها إلى أصلها النبطي من خلال مراجعة مصادر الشعر النبطي وبذل الجهد في البحث والتحري حتى نعذرهما!! رغم قول المترجم في حاشية الصفحة92:"وقد حاولت جاهداً أن أحصل على القصائد إلا أنني لم أتمكن منها فيما وقعت عليه عيني من دواوين الشعر النبطي، ولا من الرواة الذين أعرفهم بسبب قدم بعضها وأتمنى أن تورد في الطبعة الثانية لهذا الكتاب بإذن الله" !! ويظهر أن الناشر كان أكثر جدية منهما في ذلك فقد توصل كما يبدو إلى أصل إحدى القصائد وهي قصيدة الشيخ محمد بن هادي التي مطلعها: ياراكب من عندنا فوق هجهوج سواج مواج بعيد معشاه ونحن نقول للمترجم الهميم والمراجع الكريم إذا كان عدد القصائد التي وردت في الكتاب هي تقريباً تسع قصائد فقد كفاكما الناشر إحداها وبين يديكما الآن اثنتان منها فيسقط بذلك الثلث ويبقى الثلثان ونحن مستعدون لمساعدتكم إذا تأكدنا أن هدف الناشر ليس المتاجرة بتراثنا!! لأن لدي ملاحظات علمية على هذا العمل تؤكد ذلك وسأوضح ذلك في مقالة أخرى بإذن الله.