في المقالين السابقين أوضحت عدم مناسبة التوجه الحالي في المملكة نحو تبني خيار التأمين الصحي الخاص كونه سيتسبب في رفع تكلفة الخدمات الصحية بشكل كبير ويقلل من كفاءتها، وحيث أننا لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة من جديد وهناك تجارب دولية في إدارة الخدمات الصحية أثبتت نجاحها، فإن من المناسب الحديث عن بعض تلك الأنظمة الصحية للاستفادة منها في صياغة نظام صحي مناسب لنا في المملكة. والخيار البديل للتأمين الصحي الخاص هو التأمين الصحي العام الشامل المطبق في معظم الدول المتقدمة، وبموجبه تكون الدولة هي مُصدرة بطاقة التأمين الصحي لا شركات التأمين، حيث تكفل هذه البطاقة لحاملها الحق في العلاج في الوحدات الصحية الحكومية وكذا في الوحدات الصحية الخاصة وفق برنامج دفع لتكلفة تلك الخدمات يتم التوصل إليه بين وزارة الصحة وبين من يتم تأهيله من مقدمي الخدمة الصحية في القطاع الخاص. وفي ظل التأمين الصحي العام الشامل فإن مشتري الخدمة شخص اعتباري وحيد هو الدولة ما يعطيها قوة تفاوضية هائلة أمام مقدمي الخدمة في القطاع الخاص يضمن شراء الخدمة الصحية منهم بأقل تكلفة ممكنة. كما أن عدم وجود وسيط بين الدولة ومقدمي الخدمة، على عكس ما يكون عليه الحال في ظل التأمين الصحي الخاص حيث تكون شركات التأمين ذلك الوسيط، فإن تكلفة الخدمات الصحية تنخفض بشكل كبير. وعلاوة على كل ذلك فهو تأمين صحي شامل لجميع المواطنين لا يجعل حق الوصول إلى الخدمة الصحية مرتبط بالقدرة على الدفع. في هذا المقال وفي المقالات اللاحقة سأعطي لمحة سريعة عن ثلاثة أنظمة صحية رائدة على مستوى العالم طبقت التأمين الصحي العام الشامل هي الأنظمة الصحية في كل من بريطانيا وكندا وأستراليا، والذي في ضوئه سنحدد معالم النظام الصحي المقترح للمملكة. وسنبدأ بالحديث أولاً عن النظام الصحي البريطاني، فقبل أربعينيات القرن الماضي كانت الخدمات الصحية في بريطانيا تقدم بشكل أساسي من قبل القطاع الخاص، وبالتالي كان الوصول للخدمة يعتمد على قدرة الفرد على الدفع ولا خيار أمام من لا يستطيعون تحمل تكلفة الخدمة الصحية التي يحتاجون إليها إلا محاولة الحصول على معونة من الجمعيات الخيرية أو الكنائس أو الاعتماد على خدمات صحية حكومية كانت تتصف بالضعف الشديد والمحدودية. إلا أن كل ذلك تغير مع إقرار قانون الخدمات الصحية الوطنية National Health Act في عام 1946 والذي بناء عليه أنشئت هيئة الخدمات الصحية الوطنية National Health Service (NHS) في عام 1948 والتي تقدم خدماتها على أساس مسؤولية الحكومة عن تأمين خدمة صحية شاملة مجانية عند نقطة الاستخدام متاحة لكافة أفراد المجتمع. ويعتبر النظام الصحي البريطاني أحد الأنظمة ذات الأساس الضريبي الرائدة على مستوى العالم، أي أن تمويل الخدمات الصحية يأتي من الإيرادات الضريبية القائمة ولا يُفرض ضرائب إضافية خاصة بالخدمات الصحية وإنما تتشارك مع جوانب الإنفاق الأخرى فيما يتم تحصيله من إيرادات ضريبية. وتقدم الخدمات الصحية الأولية من قبل أطباء ممارسين عامين GPs يعملون في الغالب لحسابهم الخاص ويتم الدفع لهم لقاء الخدمات الصحية التي يقدمونها من قبل NHS ولا يتحمل المريض أي من هذه التكاليف، ويكون الدفع للأطباء الممارسين على أساس تكلفة محددة لكل خدمة تقدم fee-for-service، أو رسم يدفع للطبيب عن كل مُؤمَّن عليه مسجل لدى الطبيب بغض النظر عن قيامه بمراجعة الطبيب من عدمه capitation. أما بالنسبة للمستشفيات فهي في الغالب مستشفيات حكومية، ويتم تلقي الخدمة من هذه المستشفيات في حالة الإحالة إليها من قبل الممارس العام الذي يمثل بالنسبة للمريض نقطة الاتصال الأولى first point of contact أو من خلال أقسام الطوارئ فقط، وبالنسبة للمستشفيات الخاصة فتقدم خدماتها لمن لديهم تأمين صحي خاص أو مستعدون لدفع تكلفة الخدمة بأنفسهم. أما ما يتعلق بالتأمين الصحي الخاص في المملكة المتحدة فيمتلك حوالي 11.5% فقط من السكان تأميناً صحياً خاصاً، وهو تأمين تكميلي يستخدم في الغالب للحصول على خدمة أسرع في المستشفيات حيث يتيح لهم التأمين الصحي الخاص سرعة في الخدمة وخيارات أكبر من المراكز الصحية كما يغطي التأمين الصحي الخاص الخدمات الصحية التي لا تتحملها الدولة. فرغم أن المواطنين يتمتعون بخدمات مجانية من قبل الأطباء والإقامة في المستشفيات إلا أنهم يتحملون بشكل كامل أو جزئي تكاليف الأدوية وخدمات العيون والأسنان، وهناك استثناءات لغير القادرين ما يسمح بتقديم جميع هذه الخدمات لهم مجاناً أو بتكاليف قليلة. وبالنسبة للأدوية فهي مدعومة من الدولة حيث يدفع المريض مبلغاً مقطوعاً flat rate لكل وصفة طبية والذي يبلغ حاليا 7.2 جنيها إسترلينيا عن كل وصفة، كما أن من يحتاجون لتناول علاج معين بشكل مستمر يدفعون فقط مبلغ 104 جنيه إسترليني عن كل 12 شهرا. في المقال التالي نتحدث عن النظام الصحي الكندي. [email protected] أكاديمي وكاتب اقتصادي *** on twitter @alsultanam