تشهد أوروبا في الزمن الحاضر جدلاً متنوّع الأشكال مع الإسلام الحاضر على تراب القارّة. فعدد المسلمين في الراهن يفوق الأربعين مليون نسمة، وبات مرشّحا إلى تطوّرات حثيثة في غضون السنوات القليلة القادمة. ما دعا إلى خوض سياسات عدّة، تنوّعت فيها الطروحات بتنوّع المجتمعات الحاضنة والفلسفات الاجتماعية السائدة. ورغم أن شقّا هائلاً من هؤلاء المسلمين وُلد، أو عاش دهراً من حياته في أوروبا، فضلاً عن أن عدداً كبيراً منهم يحمل جنسيات تلك البلدان، فإن الكثير منهم لا يزال يعاني رهقاً، قد لا يكون مقصوداً أحياناً، وإنما جرّاء تحوّلات اجتماعية موضوعية، تسير وفق نسق بطيء. في الحقيقة كانت الآثار التي هزّت تلك الملايين من المسلمين عميقة. صارت على إثرها ألسن الوافدين ترطن بلغات أوروبا ولهجاتها، ومنهم من استحكمت بلسانه عجمة إن نطق بلغة الآباء، هذا إن لم يكن قد نسيها. كما أن قلوب كثيرين منهم باتت تهفو إلى ما تمور به وقائع تلك البلدان، ناهيك عن تطبّع المولودين بطباع الأهليين، سلوكاً وفعلاً وخلقاً. بيد أنه في خضمّ ذلك الدمج القسري أو الاندماج الطوعي بقي التديّن، بمعناه السوسيولوجي الواسع لا بمعناه الفقهي المانع، بارزاً ولافت الحضور، في كل من باريس ولندن وروما وأمستردام وستوكهولم، وغيرها من العواصم والمدن الأوروبية، بل أيضا في أرياف أوروبا وبلداتها المتناثرة بين الغابات وفوق الجبال. فعلاً نواة الدين هي مربط الفرس في ذلك السجال الدائر. فأوروبا تشهد ما يشبه مرج البحرين، بين ثقافتين وحضارتين. لذلك يبقى تحدّي الملايين المسلمة مرهوناً أساسا بتطوير الإسلام الديناميكي، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة عائمة، دون المساهمة الحضارية المرجوّة والفاعلة، وحتى يحاصر ذلك التنافر لصالح تآلف وتمازج حقيقيين. فليست أوروبا فحسب أمام هذا الاختبار الحضاري العسير، في استيعاب «الدخيل» وهضمه، بل الجموع المسلمة أيضا طرف رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به. متابعةً لهذه التحولات أصدر «مشروع كلمة للترجمة» في أبوظبي ضمن مبادرة التعاون مع «معهد الشرق في روما» كتاب «الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج» وهو من تأليف عالم الاجتماع الإيطالي إنْزو باتشي وترجمة الأستاذ الجامعي التونسي عزالدين عناية. الكتاب هو مقارنة بين قوانين وتشريعات فرنسا وألمانيا وإنجلترا وهولاندا وبلجيكا والبلدان الأسكندنافية، فضلاً عن بلدان جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا، في ما يخص التعامل مع الظاهرة الإسلامية. يعالج البحث تشريعات هذه البلدان في تعاطيها مع الدين عموماً ومع الإسلام خصوصاً. مبيّنا الكاتب تنوّعات التشريعات الأوروبية في تعاملها مع المسألة الدينية. فبرغم ما تجمع أوروبا من سمات عامة إلا أن وضع المسألة الدينية يتغير من بلد إلى آخر. فإن يبدو موضوع الإسلام تقليديا من حيث التعامل معه في بعض التشريعات، نظراً إلى خبرة السنوات مع الهجرة أو جراء الماضي الاستعماري، فإن ذلك الموضوع يبدو طارئاً في بلدان أخرى. وبالتالي، فالكتاب هو مدخل قانوني واجتماعي، لا غنى عنه، للإلمام بإشكالية معاصرة، باتت من أوكد المسائل المطروحة في السياسة الأوروبية. مؤلف الكتاب هو البروفيسور إنزو باتشي، أحد أبرز علماء الاجتماع في إيطاليا. يتولى في الوقت الحالي رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة بادوفا. من أعماله المنشورة: «سوسيولوجيا الإسلام» 2004، و»لماذا تخوض الأديان الحروب؟» 2006. أما المترجم عزالدين عناية، فهو أستاذ تونسي يدرّس بجامعة الأورينتالي في نابولي وجامعة لاسابيينسا في روما، نشر مجموعة من الأبحاث والترجمات منها: «الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري»، دار الجمل 2006؛ و»علم الأديان.. مساهمة في التأسيس» المركز الثقافي العربي 2009. الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج إنْزو باتشي ترجمة: عزالدّين عناية - كلمة أبوظبي