إن هذا النداء يهتف به المسلم الحاج إجابة لدعوة الله - عز وجل - لحج بيته الحرام؛ حيث يقول تبارك وتعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعًا لرب له تعفو الوجوه وتسلمُ يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ دعاهم فلبوه رضًا ومحبةً فلما دعوه كان أقرب منهمُ فضل الحج إن الحج شعيرة من شعائر الله - عز وجل - وهو الركن الخامس من أركان الإسلام؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإيقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت». وقد فُرض الحج في السنة التاسعة من الهجرة، وورد لفظه في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة، وحكمه واجب على الفور في حق المستطيع لقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، ولما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أفي كل عام؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين». والحج يجب في العمر مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وسلم كما في السنن: «الحج مرة فمن زاد فهو تطوع». ويستحب التعجيل بأداء فريضة الحج؛ لما رُوي في المسند من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد الحج فليعجل، فإنه قد يمرض المريض وتعرض الحاجة»؛ فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على اغتنام فرصة الحج، وألا يدعها تفوته بحالٍ من الأحوال.. بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص واغتنم مسعاك واعلم بأن من بادر الصيد مع الصبح قنص آداب الحج لهذه الشعير آداب يلزم من حج القيام بها، ومنها: أولاً: أن يخلص الحاج النية لله - عز وجل - امتثالاً لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}، وألا يقصد بحجه رياءً ولا سمعة؛ لما ثبت في سنن ابن ماجة من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، وأن يكون حجه موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «خذوا عني مناسككم».. واعلم بأن الحج ليس بحاصلٍ إلا إذا كانت له صفتانِ لا بد من إخلاصه ونقائه وخلوه من سائر الأدرانِ وكذا متابعة الرسول فإنها شرطٌ بحكم نبينا العدنانِ ثانياً: أن يتجنب الحاج فعل الآثام أثناء حجه من رفث وفسوق وجدال لقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». ثالثاً: أن يكثر الحاج من ذكر الله تعالى لقوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}، وقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث نبيشة الهذلية: «أيام التشريق أيام أكل وشربٍ وذكر لله». وأكثر ذكره في الأرض دأبًا لتذكر في السماء إذا ذكرتا ونادي إذا سجدت له اعترافًا بما ناداه ذا النون بن متا رابعاً: أن يحج بمال من كسب طيب حلال، لا تشوبه شائبة مما حرم الله - عز وجل - لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له». وفي المسند من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل جسدٍ نبت من سحت فالنار أولى به».. إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العيرُ لا يقبل الله إلا كل طيبةٍ ما كل من حج بيت الله مبرورُ إيحاءات الحج أولاً: الحج والتوحيد.. فعند الدخول في النسك يلبي الحاج بكلمة التوحيد كما في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: «حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهلّ بالتوحيد» لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وقد اشتملت هذه التلبية على جميع أنواع التوحيد؛ فقوله «والملك» من توحيد الربوبية وإثبات الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية، ونأخذ توحيد الأسماء والصفات من قوله «إن الحمد والنعمة» فالحمد وصف المحمود بالكمال والنعمة من صفات الأفعال، وقوله «لا شريك لك» نفي الشركاء لله - عز وجل - في ملكه وألوهيته وأسمائه وصفاته. ثانياً: الحج وتذكر الموت فعند التجرد من المخيط ولبس الإحرام يتذكر الحاج بلباسه هذا لبس الأكفان بعد الموت، وعند عودته بعد التحلل الأول قد يذهب إلى مسكنه لتغيير لباسه وربما استلقى قليلاً على سريره فيتذكر أنه لا بد يومًا أن يحمل على هذا السرير شاء أم أبى.. ركوبك النعش ينسيك الركوب على ما كنت تركب من بغلٍ ومن فرسِ يوم القيامة لا مالٌ ولا ولدٌ وضمة القبرِ تنسي ليلة العرسِ ثالثاً: الحج والمحشر.. فعند وقوف الحاج على صعيد عرفات في ذلك الحشد الهائل من الحجيج يتذكر الموقف الأكبر يوم الحشر، يوم العرض بين يدي الله - عز وجل - ذلك اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، ينتظرون فصل القضاء ليسيروا إلى منازلهم حسب أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره. فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم. رابعاً: الحج والارتحال.. فعند انقضاء الحج ينظر الحاج وإذا بأرض المشاعر التي كانت مكتظة بالخيام لا يكاد يجد أحدًا من ساكنيها؛ لأنهم قد رحلوا وتركوها خالية على عروشها، فكذلك هي الدنيا يا أخي، نزولٌ وارتحالٌ.. نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا وهكذا الدنيا نزول وارتحالُ * عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية - عضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية