النصيحة شأنها عظيم في حياة الفرد والمجتمع على حدٍ سواء، ولها شأن عظيم في الإسلام، فهي السياج الواقي - بإذن الله - من الفرقة والتنازع بين المسلمين، بيد أننا نلاحظ في السنوات الماضية أن النصيحة انحرفت عن مسارها الشرعي في وقت نحن أحوج ما نكون إليها، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تطورت فيها وسائل الإعلام والاتصال لتكون مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل ذلك المجالس والمنتديات أرضا خصبة للتشهير بالناس وبعيوبهم، بل تعدى ذلك إلى هتك الأعراض، والغيبة والنميمة متناسين، وغافلين عن قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم)، وهذا يجعلنا نتساءل لماذا غابت النصيحة عن مجالسنا، ومنتدياتنا، ولماذا أضحت المجالس والتجمعات الصغيرة والكبيرة لا تخلو من ذكر معايب الناس؟ اثنان من المتخصين في علم الاجتماع والشريعة تحدث عن ذلك وعن الكيفية للوصول بالناس إلى التحلي بهذا المستوى العالي من خلق الإسلام والمتمثل في تقويم النصيحة والتوجيه والإرشاد لكل سلوكياتنا مع آداب الإسلام وتعاليمه. احترام الخصوصية يقول د.محمد علي العتيق أستاذ علم الاجتماع المساعد ومدير إدارة البرامج التنموية بمؤسسة الملك عبد الله بن عبد العزيز لوالديه للإسكان التنموي أن: النصيحة من أهم المبادئ التى حث عليها الاسلام وهي ضرورة اجتماعية أخلاقية لسلامة الفرد والمجتمع ومنطلقها حث الفرد على التوجيه والإرشاد بالمعروف والنهي بأسلوب حسن المجتمع، في هذا الوقت أكثر حاجة الى الاستفادة من الآثار الإيجابية لمبدأ النصيحة الذي حث عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالتحلي بها والبعد عن كل ما يسهم في زيادة الفرقة والشحناء. ومن هذا المنطق يمكن الاشارة الى الآثار الاجتماعية في حياة الفرد من خلال تمسكه بالمبادئ النصيحة التى تسهم في غرس السلوك الإيجابي من خلال تعامله مع الآخرين، وزيادة الوعي بحقوق الآخرين وصياغة التعامل معهم، واحترام الخصوصيات.. هذا بالإضافة الى الآثار الإيجابية على الجوانب التربوية ومساهمتها في خلق جو التكافل بين الافراد ونشر السلوك الايجابي عبر الطريق المستقيم وتحقيق عنصر المحبة كما أن لها دوركبير في زيادة الوعي بأهمية المواطنة،وتنمية مبدأ العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع، وتسهم في إيضاح الحقيقة من أجل البعد عن الفساد وخلق نوع من التشاور وبعد عن النصيحة لها آثار سلبية تتركز في الآتي: حب السيطرة في حديث المجالس، وخلق الإشعاعات وتبني نشرها، وتولد العناد والإصرار على الرأي، وزرع الفتنة بين افراد المجتمع، وزعزعة الأمن الوطني، و تبني بعض الأفكار التى يمكن أن تسهم في زرع الشحناء والبغضاء، ونشر الجوانب السلبية التى لا تتلائم مع مبادئ النصيحة، و اضطراب السلوك والعمل على إفساد المظاهر الإيجابية. ضعف التربية الشرعية ويشير د. عزيز بن فرحان العنزي مدير مركز الدعوة والإرشاد بدبي إلى أن المتأمل في واقع الناس يجد أن النصيحة بدأت تختفي تدريجيا. .وبدأ يحل مكانها التعيير والغيبة والنميمة والشماتة والسُبة، وهذه أخلاق رذيلة وساقطة نهت الشريعة عنها وحذرت منها وبينت عواقبها وشؤمها على أهلها في الدارين، وهي أيضاً تتنافى مع ما جاء به نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- من الدعوة إلى النصيحة حينما حصر الدين فيها بقوله (الدين النصيحة ثلاثاً. . ) بل كان- صلى الله عليه وسلم- يبايع على النصيحة كأحد حقوق المسلم على أخيه المسلم، يقول جرير بن عبدالله- رضي الله عنه-: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم... قال: (.. والنصح لكل مسلم) في إشارة إلى اهتمام الشريعة بالنصيحة وفق القواعد الشرعية والضوابط المرعية. ولعل غياب النصيحة من مجالسنا ومنتدياتنا بمثل هذه الظاهرة التي أسهمت التقنيات الحديثة في واقع الأمر بجميع أشكالها إلى الكشف عن أخلاق كثير من الناس وبشكل فاضح وصارخ وإلى ظهور أمراض اللسان بشكل غير مسبوق من خلال الطعن والتعيير وتتبع العورات والفرح بالزلات وغيرها من رذائل الأخلاق ومحاولة نشرها على نطاق واسع يعود في تقديري إلى جملة من الأسباب: منها: ضعف الإخلاص والمراقبة لله تعالى فيما يبديه الإنسان ويخفيه، ولذلك يتميز المخلصون بمحبة الخير للآخرين، ومن أهم الوسائل التي يستعملونها في إيصال الخير هو تمحيض النصيحة وجعلها محفوفة بالرحمة وبعيدة عن الخشونة، أما من رق دينه وضعفت مخافة الله في قلبه فإنه يفرح بالزلات ويتتبع العورات ويذيع ما أوجبت الشريعة ستره. يقول ابن رجب- رحمه الله- (فلهذا كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن النقائص والمعايب وإنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد في ذلك ويبديه ومقصوده من ذلك تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس ليدخل عليه الضرر في الدنيا، وأما الناصح فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له) ا.ه. وأيضا ضعف التربية الشرعية الصحيحة في تقديري أحد أهم أسباب بروز هذه الأمراض المجتمعية والسلوكية، فإهمال التأصيل الشرعي لمثل هذه القضايا، وعدم التنبيه عليها والتحذير منها سواء في المؤسسات التعليمية أو من على أعواد المنابر أو في البيوت أو في أعمدة الصحف أو في باقي وسائل الإعلام قد تكون سبباً رئيساَ في غياب النصيحة الصحيحة وظهور ما يضادها. كذلك القدوات السيئة أحد العوامل القوية التي أفرزت لنا جيلاً يتفاعل مع هذه السلوكيات الخاطئة، فإذا رأى الشاب معلمه أو شيخه أو والده يلغ في أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويُقطع لحوم الغافلين والغافلات، ويتتبع الزلات والعثرات، ولا يلتزم النصيحة الشرعية الصحيحة؛ فشيء طبيعي أن ينزع الشاب إلى مثل هذه المراتع الوخيمة والمستنقعات الآسنة، وقد قيل: الطباع سراقة. وأيضا من الأسباب التي تأملتها ولاسيما في هذه الأوقات المتأخرة هو الفهم المغلوط لقضية النقد ورفض ما يسمى بالوصاية على العقول التي تطلق عبر وسائل الإعلام ويتلقفها كثيرون ممن لا يميزون بين الرغوة والصريح ولاسيما الأغرار الذين لا يمتلكون أدوات الفهم الصحيح في مقابل ثقافة شرعية هشة ! معتقدين بأن نقد الآخرين والتشهير بأخطائهم حق متاح ومشروع لكل أحد وأنه داخل ضمن نطاق الحريات الشخصية، وهذا في تقديري أسهم في إضعاف جانب النصيحة ومحاصرتها بل وإماتتها، وابرزظاهرة الثلب والغيبة وتتبع العورات في الصورة الحالية. ثقافة النصيحة ويؤكد د. عزيز العنزي بأنه لابد من إشاعة ثقافة النصيحة بقواعدها الشرعية وضوابطها المرعية وقانونها الإسلامي، ومعرفة بأن النصيحة قضية أخذت مساحة كبيرة من نصوص الشريعة وأن شعار الأنبياء (وأنصح لكم) وأن للنصيحة فوائد كثيرة وعوائد أثيرة، وهذه لا يمكن أن تتحقق إلا باستعمال الطرق الصحيحة والسليمة للنصيحة. من ذلك ضرورة التحلي بآداب النصيحة لأجل أن يتحقق المقصود منها، ومن أهم ما ينبغي التحلي به أن يقصد الناصح وجه الله عز وجل بنصيحته وألا يريد بذلك رياء ولا سمعة فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). فإن النصيحة دين يتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا، وحتى ينال الأجر لا بد أن تكون نصيحته لله تعالى. كذلك من المسائل المقررة في شريعتنا في قضية النصيحة أن تكون سرًا، وذلك بزيارة المنصوح، أو مهاتفته، أو مكاتبته، أو بأي نوع من الأنواع التي تحمل طابع الخصوصية، فمن نصح أخاه علانية فقد فضحه ووبخه وأعان عليه الشيطان وقدح زناد الشر في نفسه، ومن نصح أخاه سراً فقد نصحه وأعانه. يقول الفضيل بن عياض (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير). يقول الشافعي: تعمدني بنصحك بانفراد وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه كذلك استعمال اللطف واللين والرفق بالمنصوح فقد بعث الله موسى وهارون إلى شرخلقه في زمانه فرعون فأمرهما بقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وقد امتن الله على خاتم رسله بقوله (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). وقد قال عليه الصلاة والسلام (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه) فبالرفق تفتح مغاليق القلوب، وأما الفظاظة والغلظة والصلف فليست من أخلاق المؤمنين. يقول عبدالعزيز بن داود (كان من كان قبلكم إذا رأى من أخيه شيئًا يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره). ومن الأمور التي تخفى على كثير من الناس مطالبتهم المنصوح بوجوب قبول النصيحة وتنفيذها والانصياع للناصح وعدم مخالفة نصيحته، وإذا لم يلتزم النصيحة فقد وجبت فضيحته، وهذا فهم مغلوط لآداب النصيحة الشرعية، فلا تنصح على شرط القبول، يقول ابن حزم رحمه الله تعالى ( وإن نصحت بشرط القبول فأنت ظالم ولعلك مخطئ في وجه نصحك فتكون مطالبًا بقبول خطئك وترك الصواب). فإذا نصحت بالطريقة السليمة فقد أديت الذي عليك، وأما الذين تطلب منهم اتباع نصيحتك وعدم مخالفتها فهم أولادك ومن تحت يدك. وأيضا لا بد أن يعرف الإنسان أن الغاية من النصيحة هي الإصلاح، فغرض الناصح الأصل فيه طلب الإصلاح فهو يرجو الأجر من الله تعالى متجرداً من حظوظ النفس وأهوائها، فإذا غابت هذه المعاني لا شك أنه سينتقل من كونه ناصحا طالباً صلاح المنصوح إلى مُعير يبغي الفساد في الأرض وقضاء وطر النفس من خلال الممارسات الخاطئة للنصيحة. وأنا أجزم بأن النصيحة متى ما سلك الناس فيها المسالك الشرعية فإنها ستؤتي ثمارها طيبة بإذن الله، وستشيع المحبة، وتذهب أوضار الصدور، وستنتشر الطمأنينة والراحة، وسيحقق الناس ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما وصف المؤمنين بقوله: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).