سبقني قبل يومين الزميل عبدالرحمن الحبيب إلى استعراض واحد من الكتب الكثيرة للأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي، وكان عن بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية. الأستاذ أبو يعرب محمد القشعمي راصد محايد وأمين كما يعرفه الجميع للحركة الصحفية والثقافية والإعلامية والاجتماعية المحلية منذ بداياتها الأولى. المصادر المتوفرة لنا والمقدمة بجهود محلية عن التطور التاريخي للصحافة والثقافة والإعلام وعن محطاتها الرئيسية، إنجازاتها وعثراتها، شخصياتها المؤثرة، مواقف السلطات الرسمية تجاهها ومواقفها تجاه السلطات الرسمية، شؤونها وشجونها، مثل هذه المصادر المحلية لا تخرج عن ثلاث نوعيات. النوع الأول: هو الرصد الذي يقدمه أساتذة في التاريخ والإعلام والاجتماع السياسي وتتم مناقشته وإجازته كأطروحات أكاديمية ثم يطبع على نفقة المؤسسات الأكاديمية التي أجازته، أي على نفقة الدولة. النوع الثاني: هو الرصد الذي يقدمه باحثون مستقلون بمجهودهم الشخصي بعد التقليب في المراجع والإرشيفات والفهارس المتوفرة ثم يطبع محليا ً بمساعدة جزئية أو كاملة من قبل وزارة الثقافة والإعلام ثم يوزع على المؤسسات الرسمية المحلية والخارجية ويطرح بعضه للبيع في المكتبات العامة. النوع الثالث: هو ما يتطوع راصد محايد بجمع مادته بجهوده الذاتية ومراجعاته الشخصية وتتم طباعته على نفقة الراصد المتطوع ثم يطرح للقارئ في السوق. من المتوقع في النوعين الأول والثاني أن يكون المحتوى قد خضع قليلاً أو كثيراً للرقابة وتم التغاضي فيه عن بعض المواقف لكي يحوز على رضى الرقابة الرسمية، لتأتي قناعة القارئ بعد ذلك. النوع الثالث التطوعي المحايد من المتوقع أن يحتوي على أوفر كمية من الحقيقة التاريخية فيأتي الرصد متوازناً قدر الإمكان بين النظرة الرسمية والسياق التاريخي المجرد. أضم بين يدي الآن كتاباً من النوع الأخير بعنوان: الفكر والرقيب، وهو واحد من عشرات الكتب التي قدمها الأستاذ القشعمي للمكتبة السعودية. في الكتاب رصد عميق وشفاف لمسيرة حرية الرأي والتعبير ومواقفها مع الرقابة الرسمية والاجتماعية منذ بداياتها الأولى قبل حوالي مائة عام. المجهود المضني الذي بذله المؤلف في تتبع آراء أجيال الرواد في الصحافة والإعلام ومواقفهم مع البيروقراطية الرسمية وما تعرضوا له من استجوابات وغرامات ومواقف تأديبية، مجهود واضح يستثير الإعجاب ويستحق التقدير والشكر. صراع حرية الرأي وروادها المؤسسون مع أجهزة الرقابة القديمة المحدودة الثقافة، وتخبطها اللامنطقي أحياناً فيما كانت تجيز وتمنع، ذلك ما يستطيع القارئ تتبعه في الكتاب بالكثير من الاستمتاع والتعجب، ممزوجان بالتقدير الواجب للرواد الذين أسسوا لما نشهده اليوم من الانفتاح الفكري في المطبوعات والفضائيات السعودية. في صفحة 42 من الكتاب (الفكر والرقيب، الطبعة الثالثة) نقرأ ما روي عن مدير عام سابق للصحافة والنشر موجهاً الكلام لجهازه الرقابي: سوف تسألون عما تجيزون ولن تسألوا عما تمنعون. كانت النظرة الرقابية الرسمية القديمة قمعية مصدرها خوف الرقيب نفسه من التعرض للعقاب الرسمي. في السنوات القليلة الأخيرة أصبحت المؤسسات الرسمية بما فيها وزارة الثقافة والإعلام، والمسؤولون الكبار بما فيهم الوزراء والمستشارون، هي وهم الواجهات الرئيسية للنقد والمساءلة. كانت المسيرة طويلة وشاقة، تحمل صعوباتها الحقيقية روادنا الأوائل الكبار رحمهم الله أمواتاً وأحياء، وتكفل تطوعياً برصد المسيرة الراصد المحايد الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي، أما النقلة الأخيرة إلى حرية الرأي المفتوح فكانت إحدى ثمرات الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله. أنصح القارئ باقتناء الكتاب والاستمتاع بما فيه من رصد تاريخي ومواقف.