من أول يوم في رمضان شئت أن أحيي تقليداً في الأسر المكية، نشأنا صغاراً نرى أمهاتنا، وجداتنا يحرصن عليه مع الإعداد لسفرة الإفطار، وهو يتعلق بالماء المشروب عند الإفطار حين الإيذان بشربه، ليبرد العطش, ويذهب جفافه.. إذ كانت النساء المكيات يحرصن على اقتناء، حب المستكة، والكؤوس المعدنية, وآنيات الفخار، وتسمى في الحجاز المفردة منها «الشَّربَة»، والجمع منها «شِراب»، والصفة هذه مشتقة من فعل «شَرب»، وهي مخصصة لاحتواء الماء، تقليداً قديماً في مكةالمكرمة حين لم تعرف الأجيال السابقة الثلاجات، ولا البرادات، فكانت جملة من هذه الفخاريات هي مصدر الإرواء، لطبيعتها التي تستقطب الهواء فيبرد الماء بداخلها, ومن ثم يتحول إلى سائغ للشرب، يروي للعطش، يُذهب جفاف الصيف، والصوم.. تحديداً عندما ترش من خارجها بالماء، بعد تعبئتها منه, وتوضع في تيار هواء، في مكان مظلل.., يقمن المكيات بتبخير كؤوس الماء المعدنية، والآنيات الفخارية بالمستكة، وهو نوع من أنواع «اللبان»، غير أنه صغير الحجم فاتح الصفرة، يستخدم كما يستخدم خشب العود مع الجمر بخوراً يشيع رائحة زكية، وهو في الآنيات الفخارية يضيف للماء نكهة زكية.. كلما تذوقتها يفيض الحنين لبيوت الحجاز التي رسخت في الذاكرة، وتأسست في الوجدان، مع أنني لم أعش في الحجاز إلا قليلاً..، وعبوراً.. تطوف في مخيلتي أولئك النسوة الرقيقات, الأنيقات, الذكيات، وهن أحرص ما يكن احتواءً وجدانياً لأسرهن، وتنظيماً في بيوتهن، وخصوصية في عاداتهن.. السفرة الرمضانية مع كأس ماء مبخر بالمستكة.. تقافزت لحسي بمنتهى السطوة.. لذا أحييتها، وما كنت سأقول لولا أن هذه الممارسة أضفت لرمضان، امتزاجاً معنوياً بمن كانت لهن بصمات بقيت حتى الآن في غالبية الأسر المكية، يحملونها، ويحملنها حيث يعشن.. في أي مدينة من مدن المملكة، حين تحين «العصرية» من يوم رمضاني، تفوح رائحة المستكة.. تخبر بأن امرأة مكية تعطر كؤوس الماء، و»شِرابه» الفخارية، والمعدنية بنكهته، لتحلو لحظة الفطر بقراح مبرد بالطبيعة.. لكن، مهما حرصنا، فقد طويت أيامهن، ولم تطو ذكرياتهن.. فلا تزال حتى ذائقة اللسان تتعطر بها.. في شربة ماء، وقطرة رواء.. تماما كما يخفق بهنَّ الجِنان.. عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855