الفن رؤية وانطباع وانفعالات داخلية وخارجية تتشكل داخل الإنسان لتخرج لنا عملا فنيا متقنا في النهاية، وهذا العمل ليس بالضرورة أن يعبر عن الإنسان بصفة مطلقة ولا على حالة الفنان الذي أنتج العمل الفني بصفة مستديمة بل يعبر عن شعور مؤقت أو شعور مخزن من قبل داخل الفنان أو استشراف مستقبل أو رفض فكرة أو استحسانها أو يفسر مرحلة أو يحفظ تاريخا إلا انه في النهاية هو إحساس ومشاعر ذلك المبدع الذي يخرج ما بداخله أو يعبر عما يختلج في نفسه من معان وأفكار قد تكون وقتية أو أفكار ومعان مخزنة في اللاشعور مسبقاً داخل ذلك الفنان، يحركها مشهد أو صورة أو موقف وربما كلمة في حديث عابر تجعل هذا الفنان يسترجع ما بداخله فيبدأ بتشكيلها وإخراجها للعلن، والفن هو لغة تعبير ليس للفرد وحده فهو لا يعبر عن ذاته في كل الأحوال بل يتعداه إلى التعبير عن مجتمع أو جيل أو حقبة معينة قد يؤرخها مثل لوحات عصر النهضة وغيرها من الأعمال التي مازلنا نتذكرها بل ونتغنى بها ونحتكم إليها في بعض الأحيان من أجل وضع مقارنة أو استدلال تكنيكي على الرغم من المحاولات المستمرة والتجارب الكثيرة لكثير من الفنانين التشكيليين في هذا العصر للخروج عن هذا الإطار إلا أنهم لم يستطيعوا إلى الآن على أقل تقدير الخروج من رحم هذه المدارس. فلو أخذنا مثلاً أعمال التشكيلية البندري العربي التي قامت بتجارب فنية على المدرسة التكعيبية مثلا فنجدها قامت برسم لوحة بعنوان (رقصة الفالس) زيت على قماش في منتهى الجمال من حيث الفكرة واختيار الألوان وتنسيقها وتكوينها ورؤيتها في إخراج العمل الفني وتناسق الخطوط والنقاط المستخدمة بداخلها إلا أنها لم تستطع الخروج من رحم المدرسة التكعيبية الأولية التي تعتمد على اختزال العناصر المختلفة في العمل الفني إلى أحجام هندسية تقترب أو تبتعد عن الواقع بقدر إحساسها بهذه الفكرة ورؤيتها لها. وفي اللوحة الثانية كان هناك محاولة للخروج عن المألوف من خلال دمج مدرستين مع بعض المدرسة التكعيبية والواقعية إذ قامة الفنانة برسم وجه فتاة بشكل درامي داخل اللوحة، فالعين اليمنى تدل على الاندهاش واليسرى على الاسترخاء والنضارة المتدلية على الوجه ترمز إلى الرؤية هذه الدراما والمتمثلة في وجه الفتاة هو محور العمل الفني الذي رسم بإتقان داخل لوحة تكعيبية في بقية أجزائها فاليد آخذة وضع المسند لرأس الفتاة بشكل تكعيبي على يمين اللوحة، وفي أسفل اللوحةرى جسد الفتاة عبارة عن خطوط مستقيمة ومنحنية، وهذه الخطوط هي خطوط المرحلة التحليلية في المدرسة التكعيبية فجسد الفتاة رسم بوضعيات مختلفة فواحدة من الأرجل رسمت بطريقة توحي بالضغط الشديد على هذا المحذور الذي تدل عليه العين المندهشة أو الخائفة والرجل الأخرى تدل على الخضوع أو الاستسلام من خلال وضعيتها أسفل اللوحة بشكل منحن، كذلك وضع الدائرة في المنتصف ربما يدل على الحيرة بل هي الحيرة بالفعل. من ناحية الألوان فهي متناسقة وقد وفقت الفنانة في اختيارها وتوظيفها للألوان إلا أنها تظل محاولة للخروج من رحم المدرسة التكعيبية. ومن التكعيبية إلى رسم الطبيعة الصامتة التي لم تخرج عن المألوف أيضا إلا أن الفنانة أبدعت في رسمها للموضوع وتنسيق العمل وتوزيع العناصر مثل السلة والزجاجة وغيرهما من العناصر المتناسقة والمكملة لبعضها بعضا مما يوحي بترابط العمل داخل اللوحة كذلك في تناسق خطوطها و وتوزيعها الجيد للإضاءة داخل اللوحة وتنسيق الألوان كان مميزا جدا، كذلك وفقت الفنانة في اختيار الخلفية الجيدة في اللوحة وهذا دليل واضح على تمكن الفنانة من أدواتها الفنية وهذا ما نراه في هذه اللوحة الأكثر من رائعة. ومن الطبيعة الصامتة إلى عمل فني إسلامي جميل استخدم فيه خط الثلث وهو خط يستمد قوته من تميز الكتابة العربية بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب دون سواها من الخطوط، هذه اللغة ألهمت الفنانة البندري بعمل فني قل أن يقال عنه إبداع حقيقي من ناحية الفكرة واختيار اللون واختيار النص القرآني قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} نلاحظ في اللوحة مدخلا وكأن الفنانة داخل الكهف وتنظر إلى الخارج واستغلت الضوء الداخل من فوهة الكهف لعمل خلفية للآية الكريمة والتي اختصرتها على قوله تعالى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبو بكر الصديق وهما في الغار(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وفقت الفنانة باختيار الموضوع كما وفقت في اختيار نوع الخط الذي أعطى بعدا آخر للوحة، إلا أنها لم توفق كثيرا في إخراج اللوحة بصورة ممتازة فمثلا إسقاطات النور على الحرف لكي تبرزه أكثر ويعطي حركة في اللوحة لم تكن جيدة، والتوازن داخل اللوحة لم يكن بصورة كاملة لكي يخلق إيقاعا متزنا بين الحرف والخلفية للوحة، أعتقد انه يجب أن تكون الآية في منتصف المدخل أي مدخل الكهف، وفي الثلث الأخير من اللوحة عكس ما نراه هنا فهي في الثلث الأول من اللوحة، وهذا يخل بالعمل من الناحية الفنية، إلا أن هذا ما يقلل من جماليات الفكرة وإيصالها بصورة جدة.