كان العديد من الفلاسفة اليونانيين يرون أن العالم في حركة دائمة لا تنتهي عملية التطور المستمر. ولكن في عالم دارون، حددت نظرية الخلق قواعد العلم. وعلى هذا فإن نظريته في التطور تستند إلى التفسير الحرفي للكتاب المقدس، وهو التفسير الذي ساد في عصره، جنباً إلى جنب مع رؤية أرسطو للطبيعة باعتبارها ثابتة قطعاً. لقد روّج دارون، ومعه جيه. بي. لامارك، لرؤية لعالم متغيّر، في حين حافظ على فكرة مفادها أن الكائنات الحيّة تطورت من جذر واحد، وهو الموقف الذي تبناه آدم وحواء في النظرة القائمة على نظرية الخلق إلى العالم، والذي تبناه في العصر الحديث «الجد الأعلى المشترك العالمي الأخير» (لوكا). ومنذ بقايا القصة التوارتية عن الخلق نشأت فكرة شجرة الحياة، جنباً إلى جنب مع مفاهيم رئيسية مثل التدرج (الرأي القائل بأن تشكل الأنواع الجديدة لا يحدث فجأة) والفكرة القائلة بأن ضغوط الانتقاء الصغرى من الممكن بمرور الوقت أن تخلف تأثيراً عميقاً على تحسن الملاءمة واللياقة. لقد أثرت رؤية دارون بشكل عميق على علم الأحياء في القرن العشرين، على الرغم من التساؤلات الملحة التي تفرضها عوامل مثل نقل المورثات الجانبي، والنشوء المحايد، وأعناق الزجاجات الفوضوية في الانتقاء الطبيعي. ولكن الأبحاث الجينية الحديثة تدحض هذه النظرة إلى العالم بشكل قاطع. إن الحياة في المقام الأول تعبير عن المعلومات التي تحتوي عليها الجينات. فكل الكائنات الحيّة تظهر وكأنها فسيفساء من الأنسجة الجينية أو التركيبات الجينية المختلفة، الأمر الذي يشير إلى أنه لا وجود لجينين يشتركان في نفس التاريخ التطوري. وهذا الإطار لا يتفق مع تصور «شجرة الحياة»، بل إنه أشبه بالجذور، ساق تحت أرضية ترسل جذوراً وبراعم تتطور لتصبح نباتات جديدة. الواقع أننا نعلم الآن أن نسبة التسلسل الجيني على الأرض التي تنتمي إلى كائنات حيّة مرئية تكاد لا تُذكَر. فضلاً عن ذلك فإن 15% فقط من التسلسلات الجينية الموجودة في العينات المأخوذة من البيئة ومن عينات البراز التي تم تحليلها في دراسات لمواد جينية مأخوذة من البيئة مباشرة تنتمي إلى المجالات الثلاثة من الميكروبات المعروفة حالياً في إطار شجرة الحياة البكتريا، والعتيقات، وحقيقيات النوى. وتحتوي الفيروسات على 15% إلى 30% أخرى من هذه التسلسلات الجينية. وتفرض التسلسلات الجينية غير المعرفة مشكلة أخرى، لأنه من غير المعروف ما إذا كانت مركبات أخرى غير الفيروسات، والبكتريا، والعتيقات، وحقيقيات النوى لها وجود حقاً. بل إننا على العكس من ذلك نعلم أن جينات جديدة، يطلق عليها وصف (الجينات اليتيمة)، تنشأ عادة عن طريق استنساخ أو اندماج الجينات أو آليات أخرى غير معلومة. ولكن على الرغم من هذا، فإن هذه الظاهرة مستحيلة وفقاً لمفهوم شجرة الحياة الذي أتى به دارون. إن الخلايا البشرية تتألف من جينات من أصل حقيقي النوى، أو بكتيري، أو عتيقي، أو فيروسي. ومع زيادة هذه الخلايا المختلفة المنشأ الوراثي، فإنها تضم أحياناً جينات من ميكروبات تعيش داخل جسم الإنسان، كما يحدث عندما يصاب الإنسان بعدوى بفيروس الهربس 6. وبمجرد اندماجها في جينوم أي شخص فإن هذه الجينات يصبح من الممكن أن تنتقل من الوالدين إلى الأبناء، مما يجعل الجينات الميكروبية أجداداً لهؤلاء الأبناء. وقد يشتمل هذا الانتقال للتسلسلات الجينية من طفيليات إلى مضيفين على المئات من الجينات من جرثومات من مضيفين مختلفين. على سبيل المثال، إذا تم إدماج جينات لبكتيريا ولبخية بواسطة مضيفين مختلفين، مثل العناكب أو الحشرات أو الديدان، فإن ذرية المضيفين تصبح أيضاً من نسل البكتريا الولبخية. فضلاً عن ذلك فإن أحجام بعض الفيروسات والتصانيف الجينية تشبه مثيلاتها في البكتيريا أو العتيقات أو حقيقيات النوى الصغيرة. والواقع أن حياة الفيروسات العملاقة لا تقل تعقيداً عن الكائنات الحيَّة الدقيقة المماثلة لها في الحجم. ولكن التصنيف الحالي لمجالات الحياة يستند إلى الريبوسوم، جهاز إنتاج البروتينات، والذي لا وجود له في هذه الفيروسات. ويزعم العلماء التقليديون أنه في غياب الريبوسوم لا يمكننا أن نعتبر الفيروسات كائنات بيولوجية مماثلة لغيرها من الميكروبات. ولكن هذا مجرد مبدأ عقيدي محض؛ ذلك أن هذه الفيروسات تشبه الميكروبات الأخرى. وتستخدم نظرية دارون فضلاً عن ذلك لدعم اعتقاد مفاده أن البشر القدامى - إنسان نياندرثال، وإنسان كروماجنون (إنسان ما قبل التاريخ)، وإنسان دينيسوفا- لم يتخالطوا. ولكن الواقع أن أغلب علماء الأنثروبولوجيا، استناداً إلى افتراضات داروين، يزعمون أن الإنسان الحديث ينحدر ببساطة من إنسان ما قبل التاريخ، الذي أباد خصومه الأقل لياقة. وعلى ضوء هذا الافتراض، لا يستخدم الآن سوى مسمى هوموسيبيانز (الإنسان العاقل) لوصف الإنسان الحديث وسلفه المفضل، كروماجنون. ولكننا نعلم الآن أن الإنسان الحديث عبارة عن خليط جيني من هذه الأسلاف البشرية الثلاثة. ويدحض هذا الفهم أيضاً أسطورة «حواء الميتوكوندريا»، أو المرأة التي يفترض إن كل البشر ينحدرون منها من جانب أمهم. وتبين الدراسات على جينات كريات الدم البيضاء المولدة للمضادات في البشر، والتي تشارك في عملية الاستجابة المناعية البشرية، أنه من غير الممكن أن يكون لمثل هذا السلف المشترك وجود؛ فهذه المجموعة من الجينات مستمدة من جينات الأنواع الثلاثة المعروفة من البشر القدامى. إن الأبحاث الجينية بشكل خاص لا بد أن تتحرّر لكي تجد نماذج جديدة لتفسير وتعزيز الاكتشافات العلمية في القرن الحادي والعشرين. واليوم تشكل نظرية داروين في تفسير التطور عائقاً أكثر من كونها عوناً، وذلك لأنها تحولت إلى عقيدة شبه لاهوتية تمنع تحقق الاستفادة الكاملة من البحوث المحسنة. ديدييه راؤول مدير وحدة البحوث في الأمراض المعدية والاستوائية الطارئة، والتي تتعاون مع المركز الوطني للبحوث العلمية، ومعهد بحوث التنمية، وجامعة البحر الأبيض المتوسط في مرسيليا. ديدييه راؤول - مرسيليا خاص بالجزيرة www.project-syndicate.org