إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحياة والكون والإنسان، تؤكد على وجود علاقات ارتباطية بين الحوادث المختلفة، وفق قانون السبب والمسبب، والعلة والمعلول. واستقراء الآيات القرآنية يبين أن تلك السنين التي يطرحها القرآن ويعرضها، تأخذ صيغاً وأشكالاً وأبعاداً معينة. ولذا، كان المرء مدعواً للبحث والاستكشاف والدراسة والتحليل للسنن والأحكام يقول تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } سورة آل عمران(137). وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد على وجود سنن، على أساس أنها قواعد وأسس لاستنارة الطريق في وسط الظلمات. يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} سورة النور(34). ونذكر فيما يلي بشكل مختصر بعض هذه السنن القرآنية ذات الصلة بقضايا الاقتصاد: أولاً: علاقة النبوة بالطبقة المترفة المسرفة. يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ* وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} سورة سبأ (34-35). توضح لنا هذه الآيات القرآنية سنة موضوعية، تترجم العلاقة الارتباطية بين سلوكيات وردود فعل طبقة المترفين المسرفين وبين الرسل والأنبياء الذين يحملون الدعوة إلى دين الله سبحانه، وتصحيح الانحرافات العقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتؤكد -هذه الآيات- كذلك أن العقبة والحاجز المتمثل في الموقف السلبي العدائي الذي يقف دائماً تجاه البرامج الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية أمام الأنبياء والمرسلين هم طبقة المترفين والمسرفين في المجتمع. ثانياً: العلاقة بين دمار وهلاك الأمة وموقف الطبقة المترفة والمسرفة إن تتبع الآيات القرآنية، يظهر التأكيد على وجود علاقة موضوعية بين وقوع الظلم والفساد الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع ما، وبين هلاك ودمار واضمحلال الأمم عبر مسيرتها التاريخية. يقول تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (16) سورة الإسراء. تؤكد هذه الآية أن تصرفات وسلوكيات الطبقة المترفة والمسرفة، والتي تتحكم فيها النظرة المادية النفعية، تؤدي إلى تفشي الفساد والظلم، وانتشار الفقر والبؤس، وإهدار الأموال والطاقات، مما يعني انهيار وتدهور الكيان الاقتصادي، وتفكك البنية الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار الفساد الخلقي والانحطاط الروحي، وتدمير وهلاك المجتمع بكامله. ثالثاً: العلاقة بين استقامة الأمة والوضع الاقتصادي لها يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (66) سورة المائدة. ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (96) سورة الأعراف. يلاحظ من خلال هذه الآيات وجود علاقات وروابط موضوعية وشرطية بين مستوى ودرجة استقامة الأمة من حيث تطبيق الأحكام والتشريعات الإلهية، وبين درجة وفرة الخيرات وكثرة الإنتاج وازدهار ورخاء الأمة. وبعبارة أخرى تؤكد لنا هذه الآيات العلاقة الطردية بين عدالة التوزيع ووفرة وازدهار الإنتاج والوضع الاقتصادي في المجتمع. ويقول عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2-3) سورة الطلاق. في هذه الآية إشارة إلى أن التقوى والتوكل على الله، يعقبهما آثار مباشرة وغير مباشرة، تتمثل في العناية الربانية، والحكمة الإلهية، والتأييد والتسديد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. رابعاً: علاقة الفرد بالمجتمع: يقول تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...} سورة الرعد(11). تؤكد -هذه الآية- لنا مدى الارتباط الوثيق بين الفرد والمجتع شكلاً ومحتوى، بين المحتوى الخارجي للفرد والأمة وبين المحتوى الداخلي لهما. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} سورة الأنفال(53). إن الآيات السابقة لتؤكد على معان ومضامين حقيقية تعتبر ركائز نمو وازدهار أو تدهور واضمحلال أي مجتمع، وأن اجتياز مرحلة الركود والسلبية لا يمكن تجاوزها، إلا بتوفير المقدمات، ومعرفة العلل والأسباب، والتمسك بالأسس والركائز المنبثقة من المحتوى الداخلي للإنسان والأمة. مما سبق، يتضح أن الإسلام كان سباقاً في تبيان تلك الأطر والسنن التفصيلية للأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، على أساس خضوعها لسنن وأحكام إلاهية.