سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة وفقه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فتعقيباً على المقال الوارد في عددكم الصادر بتاريخ 18-7-1433ه بعنوان (تعبير الرؤيا ليس فتوى..! بقلم عارف بن عيد العتيبي) وهو استدراك على مقال لي نشر بتاريخ 11-7-1433ه وعنوانه (أفتوني في رؤياي) وكان ملحظ المعقب ينحصر في مسألتين: الأولى: أن تعبير الرؤيا ليس فتوى وأنه من الخطأ الاستدلال على ذلك بالآية {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}. والثانية: أن تعبير الرؤى ليس علماً شرعياً وأنه قل من أئمة العلم من اشتهر بالتأويل. وأقول في الجواب وبالله التوفيق: إن الخطأ في التعقيب ابتدأ من المسألة الثانية وعليها ترتب الخطأ في الأولى، فأما قول صاحب التعقيب إن تعبير الرؤى ليس علماً شرعياً فهذا لا يوافق عليه. فقد دل الكتاب والسنة على أن تأويل الرؤى جزء كبير منه قائم على العلم بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وفهم دلالاتها في تفسير الرؤى، كما أن جزءاً منه هبة من الله تعالى وقد جمع تعالى بينهما لنبيه يوسف عليه السلام في قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}..(يوسف: 6)، ودلت نصوص أخرى أيضاً على كون تعبير الرؤى علم ولهذا يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}يوسف21، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}يوسف101، والمقصود بتأويل الأحاديث هو تعبير الرؤى كما ذهب إليه جمع من المفسرين. ويدل لذلك من السنة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقصوا الرؤيا إلا على عالم أو ناصح) فعلم من هذه النصوص أنه لا يجوز أن يفسرها من ليس لديه علم كما ذكرت في المقال واستشهدت على ذلك أيضاً بقول الإمام مالك رحمه الله حين سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟، وقال رحمه الله: (لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيراً أخبر به، وإن رأى مكروهاً فليقل خيراً أو ليصمت). وأما قول المعقب أن تعبير الرؤيا ليس فتوى، فأقول ان الله تعالى سمي في غير موضع تعبير الرؤى بالفتوى، وهذا واضح وصريح في مواضع يؤكده دلالة السياق في الآيات كما قال تعالى: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }يوسف43، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ..}يوسف46، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }يوسف41. والمقصود بالفتوى هنا معناها اللغوي أي الإجابة عن المسألة وبيان ما أشكل من الحكم ويراد بها في هذه الآيات تعبير الرؤيا للملك وللفتيان في السجن والإجابة على ما أشكل عليهم من معناها، وهذا داخل في معنى الفتوى الذي ذكرناه، وليس المقصود به المعنى الاصطلاحي الذي هو تبيين الحكم الشرعي من الحلال والحرام والإباحة لمن سأل عنه، كما فهمه صاحب التعقيب وفقه الله ولهذا أشكل عليه كون ملك مصر وحاشيته كانوا غير مسلمين فهذا ليس مقصوداً ولا علاقة له بسياق الآية، ثم إن الترابط بين أصل معنى الفتوى وتعبير الرؤيا واضح من جهة أن كلاً منهما بيان لما يشكل على الرائي والمستفتي وكلاهما أي علم تعبير الرؤى وعلم الفقه والأحكام له ارتباط بنصوص الشرع، وكذلك أيضاً يشتركان في بعض الضوابط التي ينبغي أن يتصف بها المعبر والمفتي، ولهذا أكد العلماء رحمهم الله على أهمية تعبير الرؤى وأنها لابد أن تكون مبنية على علم لأنها تتحدث عن معاني تؤخذ دلالات تعبيرها من النصوص الشرعية وهي جزء من النبوة، كما جاء في الأحاديث، وتسمية الله تعالى في كتابه لها بالفتوى دليل على أهميتها وتذكير لنا بالفتوى التي هي توقيع عن الله تعالى في بيان أحكامه. وأما قول المعقب (ولو كان تعبير الرؤى علماً شرعياً مقدساً لما نجح فيه صغار أهل العلم دون كبارهم) أقول أما كونه علماً شرعياً فقد تبين ما يدل على ذلك، وأما قوله: لما نجح فيه صغار أهل العلم، أقول إن كون هذا العلم شرعي لا يقتضي أن يكون أفضلها، فإن أصول العلوم الشرعية وهي العقيدة والتفسير والحديث والفقه أفضل من علم تعبير الرؤى بمراحل، ولهذا انشغل كبار أهل العلم عبر عصور التاريخ بهذه العلوم لفضلها وشرف مسائلها وقل منهم من برز في مجال الرؤى لأنها أقل شأناً، كما أن الناس في تلك العصور لم يكونوا منشغلين بها كيومنا الحاضر ولم يكن كبار العلماء يرجون من ورائها ربحاً كحال بعض المعبرين في زماننا. وخلاصة هذه المسألة يبينها العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره ضمن بيانه للفوائد المستنبطة من سورة يوسف حين يقول: (ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}، وقال الملك: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}، وقال الفتى ليوسف: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} الآيات، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم). والله تعالى أعلم رياض بن حمد العمري - محاضر بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية