كما الصاعقة.. تفاجئك الحال في بعض أحياء جدة، فلا تجد أمامك سوى محاولة فتح عينيك وإغماضهما ثم فتحهما مجدداً، لتتأكد أن ما تراه حقيقة! أكثر من عشرين حياً شعبياً تحكي المفارقة المضحكة المبكية.. عالم لا ينتمي لإنسان القرن الحادي والعشرين. هكذا تشي بانوراما المكان حين يرسل الزائر ناظريه إلى المنازل.. الشوارع.. الخدمات.. والإنسان! مواجهة مع المارد إحساس طاغٍ ملأ جوانحي، وأنا أدلف بصحبة زميلي المصور لحي الكرنتينة الذائع الصيت، فهنا تستعيد الذاكرة قصص الإجرام والانفلات و(الممنوعات)، بعد أن ارتبطت كلها بالحي.. خيالاً أو واقعاً. الإحساس التلقائي الأول هو أن المكان يقع خارج المملكة.. وتحديداً في القارة الإفريقية، فالبشرة السمراء تبدو طاغية على النمط السكاني، رغم أن حميمية الإنسان هناك، والنطاق الجغرافي الذي يقع فيه الحي، إضافة إلى عوامل التأثير والتأثر المعروفة.. تجعل القادم للمرة الأولى قادراً على خلق نوع من الألفة مع المكان.. تماماً كما كان يفعل مستكشفو العوالم الجديدة في القرون الماضية. دخلنا سوق الكرنتينة، وهي كلمة تعني (المحجر الصحي)، وقلنا (بسم الله) ونحن نلتقط صورة فوتوغرافية عامة للشارع، فإذا بمارد مفتول العضلات ينبري مانعاً إيانا من التصوير، رغم معرفته بأننا صحفيون، مشيراً إلى أن التصوير يعرض (العوائل) لالتقاط صورهن، وهذا ما لن يرضاه. تلفتنا يمنة ويسرة، فوجدنا كل شيء في المكان.. عدا سيارات الشرطة والجوازات، فطلبت من مرافقي إخفاء الكاميرا.. وكفى الله المؤمنين القتال. القورو.. بالكوم! حقاً.. دخول الناس في الشبكات هين، غير أنا خرجنا من السوق بسهولة.. لكن نواظرنا لم تستطع فكاكاً من منظر بائعات الفصفص عند مخرج السوق، حيث (القورو) على قارعة الطريق يباع بأرخص الأسعار، لدرجة القول إنه «على قفا من يشيل». والقورو، بحسب متعاطيه، ينشئ حالة كالتي يعيشها متعاطو القات، لكنه، بأي حال، ليس ضمن قائمة المواد المنبهة أو المخدرة، ما يسهّل دخوله عبر الوافدين ليجد فيه المتعاطون عوضًا عن (الممنوع). خبير الأعشاب محمد سعيد صاحب محل عطارة يقر بأن القورو يستخدم في الطب الشعبي الأفريقي لزيادة النشاط الجسمي والعضلي، وللضعف الجنسي: «لكن تناول كميات كبيرة منه في فترة قصيرة تجعل المتعاطي يعاني من تسمم الكافيين، كما تزداد احتمالات الإصابة بالنوبات القلبية». متعة ومسيار كم تستهوينا، معاشر الرجال، قصص زواج المتعة، وحكايات المسيار، لذلك وجدنا أقدامنا تنطلق بحماسة صوب (كيلو 14)، بعد أن سمعنا روايات عن انتشار تلك الظواهر هناك. بسهولة، أنشأنا علاقة تعارف في الحي مع شخص يدعى غلام (برماوي)، لكننا عندما حاولنا التصوير معه رفض بابتسامة وحياء، ومع ذلك فتح قلبه مُقراً بأن زواج المسيار منتشر: «هو زواج شبه شرعي تحتمه ظروفنا المعيشية، وهناك سعوديون راغبون فيه، ويكونون في العادة على معرفة بالمأذون الشرعي الذي يملك الصلاحية ويكون هو الوسيط فيتم الزواج بالسر». (غلام) تحدث بأسى عن الفتيات من ضحايا المسيار، خصوصاً عند حدوث الحمل، وهجران الزوج السعودي، فيتربى المولود دون أب معروف، وتبقى الأم متهمة بالزنا إذا لم يعلم الجميع بوضعها: «بعض العوائل البرماوية أدركت هذه القضية وتداعياتها، فأخذت النساء ينصحن بعضهن البعض بضرورة استخدام موانع الحمل». تنبول وشمة دول جنوب شرق آسيا لم تقصّر، فقد سرّبت لنا مادة (تنبول) التي تستخدم مضغاً بالفم، ولاحظنا أنها تباع في قارعة الطريق، رغم أن مصادر طبية تشير إلى أنها مادة مضرة بل ومسرطنة. لكن الأمر يمتد أيضاً ليشمل (الشمة) و(النشوق)، فبعد زيارات خاطفة الى حي السبيل ثم الهنداوية ختمنا جولتنا بحي القريات. وزرنا (سوق اليمنة) الذي يتوسط تلك الأحياء، وفيه حركة بيع وشراء نشطة، فلاحظنا أن بائعي الشمة والنشوق يمارسون نشاطهم فيه ولكن بالخفاء، ويبيعونها بأسمائها المتعددة التي تدل عليها مثل (التنباك والسعوط والنشوق والمضغة والسفة والسويكة والبردقان). أبواب من قماش السير بين حي النزلة والقريات وبترومين، يكشف عن أزقة ضيقة ومنازل آيلة للسقوط وبعضها يتستر خلف أبواب من القماش. الملاحظة تكشف أن غالبية سكان هذه الأحياء من السعوديين، ممن يعيشون تحت خط الفقر رغم تملكهم لعقاراتهم دون صكوك شرعية، وهو ما يقف حجر عثرة أمام الاستفادة من بنك التسليف والادخار لترميم تلك الأكواخ أو إصلاحها. علي مجرشي، أحد السكان القدامى في الحي، يشير لاكتظاظ الحي بالوافدين غير النظاميين، وبانتشار الجريمة والمخدرات والرذيلة: «نحن سمعنا بوجود مشاريع لتطوير الأحياء العشوائية تبناها أمير المنطقة، ولكن هناك من بخس حقوقنا في التثمين غير المجزي، فلماذا لا يراعون في التثمين بأننا سوف نطور وضعنا أيضا وننتقل إلى الأحياء الجديدة بدلاً من ان نخلق أحياء عشوائية أخرى حسب قيمة التثمين، نحن نطالب بعمل لجنة من عدة جهات لتصحيح وضع الصكوك الموقوفة من زمن ليس بالقريب».