شعرت بكثير من الأسى على اعتذاري عن المشاركة في مناسبات ثقافية كثيرة ادعى لها في منطقة الجوف، وقد يكون آخرها حضور تشكيل فرع الجمعية السعودية للفنون التشكيلية، لكنني بعد زيارتي الأولى ولن تكون الأخيرة التي تلقيت الدعوة لها من الجمعية السعودية للثقافة والفنون، ممثلة في مديرها المثقف النشط الدكتور نواف الراشد ومن رئيس قسم الفنون التشكيلية والخط العربي الفنان والإعلامي جلال الطالب عوضتني عن ما فات، حيث كانت الزيارة وبما قام به الزملاء هناك من جهود في إعداد برنامج سياحياً متميزاً، غطى بعضا من جوانب المعرفة عن هذه المنطقة بما شملته الجولة من زيارات متنوعة، منها ما يتعلق بالأمكنة واستحضار الأزمنة، ومنها الزيارات الإنسانية لشخصيات يشعر الفرد بالاعتزاز بها وبما حظي به منها من معلومات تاريخية. ومع أن زيارتي كانت تلبية لدعوة لحضور حفل توزيع جوائز ملتقى الجوف التشكيلي الذي ينظمه فرع الجمعية السعودية للثقافة والفنون، إلا أن أهل الجوف حريصون على ألا يعود الزائر منها إلا وقد أبقى في ذاكرته الكثير عنها، والحقيقة أنني كنت أتمنى أن أرى الجوف بعيون كثيرة وإدراك متعدد، لعلي ألم بكل ما أشاهده من كل الزوايا، لكنه الميل إلى العين والعقل التشكيلي فأصبحت أرى بها الجوف، لوحة مكتملة التكوين.. متكاملة البناء بما شملت به من رعاية كريمة من حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تتطلب بما ازدانت به من تألق دراسة مستفيضة فقد أعادت أمجادها وحضورها وأهميتها، منطقة تمتد بامتداد الأفق تتوزع في امتدادها المدن والقرى والهجر، تشكل عقدا من الحب بين أفراد مجتمع أحال صحراءها إلى مروج وجنات، ومدنها إلى مشهد حضاري معاصر لا يمل المتنقل بين كل جزء فيها. الحفاظ على الآثار ثقافة يتوارثها الأجيال لاشك أن الآثار أي كان نوعها، جزء من الشواهد العظيمة على أصالة الوطن وحضاراته، ولها أهمية كبيرة تصل إلى حد اقتنائها والاعتزاز بها، وحتى لا نخرج من خصوصية الصفحة التي تعنى بالفن التشكيلي فان الآثار مصدر استلهام للفنانين من خلال توظيف الكثير منها في اللوحات أو المجسمات النحتية منها ما يبرز تلك الآثار بشكل مباشر ومنها ما يتناسب مع فكرة اللوحة على اختلاف أساليب تنفيذها..وإذا عدنا إلى مفهوم الفن بأنه إبداع أنساني فإن في تلك الآثار ما يدل على وجود فنانين مبدعين كل في تخصصه أضفوا على مصنوعاتهم الحس الجمالي، بجانب الهدف النفعي، لهذا فإن الآثار بمجملها تعد فنا وإبداعا في العمارة أو في ما يخص الحياة المعيشية وحاجة الفرد إلى تصنيع ما يتعلق بكل منها من أدوات طعام أو شراب أو أدوات زراعية إلى آخر المنظومة. هذا الربط بين الفن التشكيلي والآثار دفعني إليه زيارتي لمتحفين في الجوف منحاني الكثير من المعرفة عن الكثير من الأدوات التي كانت تستخدم في حياة أبناء منطقة الجوف، الأول كان في منزل الشيخ عبد الرحمن ثلج الضويحي الذي يعد من المخضرمين ممن عاشوا فترات من الحياة، القديم منها بكل ما فيه من شقاء وصعوبة وفقدان للأمن وشظف العيش، وبين عهد أصبح فيه ما جمعه في متحفة شيئا من الذكريات أوجد بها شكلا من أشكال المقارنة بين زمننا وأزمان سابقة يقدمها لأبنائه وأحفاده باعتزاز أراه في عينيه وفي حيويته ونشوته عند الحديث عن الماضي وعن الحاضر، مضيفا بين كل جملة وأخرى شكره لله ثم للملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن ولخادم الحرمين ولأمير المنطقة على ما أصبح عليه الوطن من نعمة الأمن والأمان والنعم الكثيرة. أما المتحف الآخر فهو للأديب والمثقف الدكتور نواف الراشد مدير فرع جمعية الثقافة والفنون الذي لم يكن الوقت كافيا لاستيعاب كل ما في متحفه من كنوز يفخر بها ويشعر بالاعتزاز عند شرح كل قطعة و تاريخها ومناسبتها، اختصر في متحفه مساحة من الزمن شعرت خلالها أنني في أزمنة أخرى، إلى أن خرجت من المتحف إلى موقع آخر من مجمع أسس فيه إضافة إلى المتحف قاعة استقبال تتسع إلى ما يزيد عن المائة مقعد أقام فيها الكثير من الندوات والحوارات الثقافية. الجوف والثقافة والفن التشكيلي وإذا كنا على علم تام بأن كل ما يحيط بنا من تلك المظاهر يعبر عن ثقافة شاملة في مختلف نواحي الحياة في منطقة الجوف، من حركة البناء والتجارة والتعليم، فإن للثقافة بمفهومها الإبداعي مساحة لا تقل عن سابقاتها، فالحراك الثقافي الذي تعيشه منطقة الجوف أصبح جزءا من الإعلام عنها، حيث وصل إلى آذان وعيون وذاكرة كل أبناء الوطن، من خلال ما يتابعه المواطنين في مختلف مناطق المملكة من أخبار للأنشطة الثقافية بالجوف بكل روافدها، شعرا ورواية وندوات ومحاضرات وفنون تشكيلية، يتبع كل منها جهته المسئولة فهناك نادي الجوف الأدبي وفرع الجمعية السعودية للثقافة والفنون، كل منهم يعمل خدمة للمثقفين والفنانين هناك، لكل من تلك الروافد مبدعين يسيرونها نحو نهر الثقافة الأكبر.. ثقافة الوطن، التي حققت حضورها العالمي. وإذا كان ما أشرنا إليه في سياق هذا الموضوع من إشارات وإضاءات حول هذه المنطقة الغالية من مناطقنا جميعا فان للفن التشكيلي في الجوف حقه من وتسليط الضوء باعتباره شقيق الإبداعات الأخرى التي حمل فرع الجمعية السعودية للثقافة والفنون بالجوف دوره في دعم المنتسبين إليه من خلال قسم الفنون التشكيلية بالجمعية إضافة إلى ما سعى إليه التشكيليون من تأسيس فرع لجمعية التشكيليين ليصبحا عينين في رأس ثقافة وفنون الجوف عامة، سيكون لنا معهما ومع برامجهم وقفة خاصة في الأسبوع القادم.