الرياض - الجزيرة: تحل الذكرى السابعة للبيعة المباركة وتحمل في طياتها الكثير من الإنجازات التي سجَّلها التاريخ، في جبين تقدُّم الأمم والحضارات في العديد من المجالات التي اتسمت بالنهضة الشاملة. وقد طُبعت هذه الإنجازات بقيم ثابتة كالجبال سار عليها مؤسس هذه البلاد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - وسار عليها من بعده أبناؤه الملوك وصولاً إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله -.. هذه القيم تؤكد باستمرار على حقوق الوطن وأهمية بنائه، والحفاظ على نظامه ونسيجه العام والمشاركة في البناء والنهضة ورفعة المواطن من أجل رفاهيته وعيشه الكريم، بالإضافة إلى التأكيد على عدل المواطنة وما تنطوي عليه من مشاريع تضمن العيش الكريم، والمشاركة في النهضة ومسابقة الأمم والحضارات في كل ميادين العلم والمعرفة. لقد دأب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على هدفه بالمحافظة على وحدة الوطن، وتلاحم أمته هو الهاجس الذي يؤرقه، وهو أهم ما استوعبه من أبيه الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فقد انتقل الملك عبد العزيز إلى جوار ربه وهو يُوصي أبناءه بالمحافظة على وحدة هذا الوطن، واختزن عبد الله بن عبد العزيز هذا الموقف في ذاكرته وحفظه في قلبه، ورواه عندما حانت مناسبة لاستحضاره.، فقال عبد الله بن عبدالعزيز: (التاريخ إذا كان منصفاً سيتذكر أن ذلك الرجل (الملك عبد العزيز) صنعَ شيئاً مهماً في التاريخ الوطني العربي، إنني أستذكر أنه عندما كان يروي لنا قصص توحيد أجزاء المملكة، فإنه كان يحدثنا عنها ونحن على موائد الخير التي تدفقت بفعل الاستقرار، لقد حارب الملك عبد العزيز - رحمه الله - ومعه رفاقه ببطون معصوبة بالحجر حتى لا يشعر هو وجنوده بالجوع، لكنها عزيمة الرجال!.. عندما كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - على فراش المرض وقبل أن يفارق الحياة كان هاجسه وحدة المملكة وأمنها، مع أن الظروف في ذلك الوقت ليست نفس الظروف الحالية، حيث إن الصراع يأخذ شكلاً شرساً مليئاً بالأحقاد والضغائن، في ذلك الوقت انتقل الملك عبد العزيز إلى رحمة الله، وجاء بعده المغفور له الملك سعود وسارت الأمور). وربما لكل تلك الأسباب والظروف مجتمعة أصبح عبدالله بن عبدالعزيز يجمعه بوالده الملك عبدالعزيز شبه في شكله ومظهره، واقتداء به في دينه وعمله وخُلقه، فقد كان جلالة الملك عبدالعزيز - طيَّب الله ثراه - ذا قامة مديدة وصدر رحب ومنكبين عريضين وجسم قوي، وكان بسيطاً في ملبسه ومأكله لا يحب الإسراف والمظاهر، لا يحب أن يتميز أهله وأولاده عن بقية أبناء شعبه بشيء، مذكّراً طوال وقته بتقوى الله في كل شيء. وعلى هذه التقوى ومخافة الله في كل شيء نشأ عبدالله بن عبدالعزيز عابداً لربه، مخلصاً لدينه، باراً بوالديه، محباً لوطنه وشعبه وأهله، ربّاه والده الملك عبدالعزيز على قيم الدين الحنيف، وعقيدة السلف النقية، وخصال الخلق الحميد، فتعلم من أبيه أن (الملك) تكليف لا تشريف، ورسالة عظيمة، ومسؤولية يُسأل عنها أمام الله، ويحملها أمانة في عنقه إلى يوم يلقى ربه. وكان الملك عبدالعزيز يؤكد على أبنائه معايشة هذه القيم وتطبيقها في حياتهم اليومية، ويردد عليهم في مجالسه فرادى وجماعات قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ). أدرك عبدالله بن عبدالعزيز منذ باكر شبابه أن العدل أساس الملك، وأن العدل دليل مكارم الأخلاق، وأول هذه المكارم التواضع، والتواضع يجلب محبة الناس، ومحبة الناس من محبة الله للعبد، وإذا أحب الناس ولي أمرهم أعانوه على إقامة العدل وشاركوه المسؤولية، فكانوا لمروءته أوفياء، وعلى عهده أمناء، يدينون له بالولاء في حضوره وغيابه، وقد عبّر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن هذه المعاني بإيجاز بليغ في خطابه التاريخي للأمة بمناسبة توليه العرش، فقال: (أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحني القوة على مواصلة السير في النهج الذي سَنّة مؤسس المملكة العربية السعودية العظيم جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - واتبعه من بعده أبناؤه الكرام رحمهم الله). إن هذه العبارة وحدها تكفي للتدليل على ما يختزنه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في ذاكرته من تاريخ لقيم ورثها عن أبيه وظل يعمل بها ومن أجلها طوال مراحل مسؤوليات حياته حتى توليه الملك، وعندما يصبح ملكاً يعبر عن وعيه بثقل المسؤولية وعظمتها فيعاهد الله ثم شعبه على إقامة شرع الله (أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتّخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً وأن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق، وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة). ثم يبرز تواضعه، ذلك التواضع العظيم الذي عاش به منذ كان في مدرسة والده الملك عبدالعزيز، إذ يقول مخاطباً الشعب: (أتوجه إليكم طالباً منكم أن تشدوا أزري وأن تعينوني على حمل الأمانة، وألا تبخلوا عليّ بالنصح والدعاء). فلسفة الوفاء والإيثار في يوم الأحد 21 شعبان 1402ه الموافق 13 يونيو 1982م توفي الملك خالد بن عبدالعزيز وبايعَ الشعب الملك فهد بن عبدالعزيز ملكاً للمملكة العربية السعودية والأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولياً للعهد، وعُيِّن في اليوم نفسه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع استمراره في رئاسة الحرس الوطني. وعلى مدى ما يقرب من ربع قرن كان عبدالله بن عبدالعزيز يشارك أخاه فهد بن عبدالعزيز ويؤازره ويعضده بنكران ذات وإخلاص منقطع النظير في بناء النهضة الحضارية الشاملة التي شهدتها كل مرافق الحياة في المملكة. ودفعه وفاؤه العظيم لوطنه أن يُنشئ العديد من المؤسسات الإسلامية والثقافية والاجتماعية ودعم المرافق التعليمية. مفهومه للوطنية الوطنية عند خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ترتبط بالإسلام عقيدة وسلوكاً ومنهاج حياة؛ ذلك لأن لهذا الوطن خصوصية تميزه عن أوطان العرب والمسلمين كافة، وتتمثّل في جانبين أساسيين: أولهما: أن الله شرَّف هذا الوطن بوجود الحرمين الشريفين فيه، ففيه مهبط الوحي، ومنه انطلاق الدعوة الإسلامية، وعلى أرضه أسس محمد صلوات الله وسلامه عليه أول دولة للإسلام، وثانيهما: أن الحكم السعودي تأسس وقام على نصرة هذه الدعوة وخدمة هذه الأرض المقدسة بالحرمين الشريفين وتسخير كل إمكانياتها لهذا الهدف السامي. لهذا لم يكن عجباً أن يردد الملك عبدالله بن عبدالعزيز هذا القول: (إن هذا الوطن إما أن يكون مسلماً أو لا يكون على الإطلاق، وسوف يظل - إن شاء الله - وطناً عربياً مسلماً حراً يتمتع كل مواطنيه بالعزة والكرامة والأمان لا فرق بين مواطن ومواطن.. إنني أدعوكم وأدعو نفسي إلى هذا المنهج الإسلامي الحكيم، منهج الوسطية والاعتدال ومنهج القرآن الكريم ومنهج نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يراودني أدنى شك أنكم ستكونون كما عهدناكم مواطنين صالحين صادقين). وظاهرة الاهتمام بهذا الجانب المشرق في ترسيخ الوعي بمفهوم المواطنة تُعد من سمات فكر وشخصية خادم الحرمين الشريفين، ويتجلى هذا الاهتمام أكثر ما يتجلى في زياراته الداخلية لمناطق المملكة، ولقاءاته المفتوحة مع أبناء المناطق حيث ينطلق من فطرته السليمة، وعلى سجيته النقية، ويتحدث من القلب إلى القلب، أباً للصغير، وأخاً لمن هو في مثل سنّه، وابناً لمن هو أكبر منه سناً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجده يعبر عن عميق حب هذا الوطن وقوة ارتباطه بأبنائه وأرضه في كلمته الختامية لإحدى زياراته للمنطقة الشرقية عندما كان ولياً للعهد إذ يقول بحب عظيم لهذا الوطن وأهله: (أغادر اليوم جزءاً من وطن الوحدة والتوحيد.. وطن تتمثل فيه أبلغ صور التلاحم بين شرقه وغربه جنوبه وشماله.. وطن جسَّد ويُجسِّد الإنسان السعودي فيه كل معاني الوطنية من خلال عطائه وتفانيه وإخلاصه لله جل جلاله ثم لوطنه ومليكه وأهله وقومه. أحسست ذلك في كل مكان زرته وفي كل كلمة سمعتها، وتمثَّل ذلك في كل مشاريع النماء التي رأيتها شامخة في شرقية الخير كهامة المواطن في جسد الوطن. إن رؤية أهلي وقومي وأبنائي في المنطقة الشرقية بل وفي كل مناطق المملكة وقد احتزم كل منهم بإرادة المتوكل على الله القادر المقتدر وبسواعد لا تكل وعزم لا يمل مصدر سعادتي وفرحي). ثم يؤكد على مواطنته وشراكته في المسؤولية مع كل مواطن، ويستشهد ببيت من الشعر في حب الوطن، ويشرح العلاقة الفلسفية بين (الهموم) و(الهمم) ويدعو إلى التعمق والتبصر في أمور المستقبل ثم التوكل على الله، وله كلمته التي لا يفتأ يرددها في كل حين إذ يقول: (لأنني واحد منكم أفخر بمواطنتي وأعتز بمشاركتي لكم فما أنا إلا مواطن قبل كل شيء؛ فكلنا شركاء في الهدف والمصير، وعلى الشريك أن يعطي الشراكة حقها، وذلك يكمن في الكلمة الصادقة والعمل المخلص، فبناء الأمم مرهون بمفاهيم الوطنية بكل أشكالها وصورها. فللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحقُ.. نعم الوطن في هاجس كل شريف تثقله الهموم، ولكن علينا أن ندرك بأنه بقدر الهموم تتجلى الهمم، ولنستفد من تجارب أمسنا بما نقوم به في حاضر يومنا، ولندرك بأن المستقبل بكل ما تحمله لنا الأيام لا يعدو إلا أن يكون نتاج ذلك كله، فلننظر في كل أمر نظرة لا تقف عند حدود ظواهر الأشياء، بل علينا أن نوغل في التبصر بإصرار وعزيمة لا تنثني أمام صغائر الأمور أو كبائرها). وما دام خيار هذا الوطن هو الإسلام، والإسلام مصدر وطنية كل مواطن فإن عبدالله بن عبدالعزيز لا يتوانى في الحديث في أدق الأمور التي تخص مواطنة المواطن نصحاً وتحذيراً ولفتاً للنظر في ما يمكن أن يغيب عنه، فيقول المليك بحميمية صريحة شارحاً المنهج الإصلاحي الإسلامي الذي تسير عليه الدولة: (إن الدولة ماضية بعون الله في نهجها الإصلاحي المدروس المتدرج، ولن تسمح لأحد بأن يقف في وجه الإصلاح سواء بالدعوة إلى الجمود والركود أو الدعوة إلى القفز في الظلام والمغامرة الطائشة، وإن الدولة تدعو كل المواطنين الصالحين إلى أن يعملوا معها يداً بيد وفي كل ميدان لتحقيق الإصلاح المنشود، إلا أن الدولة لن تفتح المجال أمام من يريد بحجة الإصلاح أن يهدد وحدة الوطن أو يعكر السلام بين أبنائه. إنني أطلب من كل مواطن يود بحث الشؤون العامة أن يتحلى بالحكمة والاتزان وأن يتجنب ركوب الموجة وشهوة الظهور. إننا لا نود التعرض لحرية الرأي المسؤولة الواعية ولكننا في الوقت نفسه لن نترك سلامة الوطن ومستقبل أبنائه تحت رحمة المزايدين الذين يبدؤون بالاستفزاز وينتهون بالمطالب التعسفية). كان عبدالله بن عبدالعزيز أميراً وملكاً منفتحاً على الناس جميعاً، لا يرد من بابه أحداً، يناقش الصغير بنفس مستوى احترامه للكبير، له عزيمة الشباب ومضائه وله حنكة الشيوخ وحكمتها، فالمجالس المفتوحة سُنَّة، سنها الملك عبدالعزيز مؤسس هذا الوطن الأكبر، وعض عليها بالنواجذ من بعده أبناؤه ملوكاً وأمراء، فلا عجب أن يكون عبدالله بن عبدالعزيز في طليعة المتمسكين بهذه السنَّة والداعين إليها والحريصين عليها. قوة الإيمان والحق وبعقيدة المؤمن الراسخ الإيمان يتحدث، يتطرق فكر الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى فلسفة العلاقة بين (حق القوة) و(قوة الحق) فيقول في إيجاز بليغ حكيم: (قوة الحق قوة سرمدية، وحق القوة حق ظرفي، إن تبدَّى اليوم فهو مندثر حتماً). والقوة في نظر الملك عبدالله بن عبدالعزيز (قوة الإيمان) وهي القوة التي لا تغلب، وهي القوة التي يفاخر بها عندما يستعرض الأقوياء قوتهم دون أن يخاف على قوته من الهزيمة أو الانكسار؛ لأنها قوة الله التي منحته الثقة بالنفس. (إنني هنا لا أتحدث من مركز ضعف، بل من مركز قوة، قوة المؤمن بالله، والواثق من المستقبل). ومثلما منحه الإيمان الثقة بالنفس والشعور والقوة منحه أيضاً التفاؤل، فلم يكن عبدالله بن عبدالعزيز متشائماً أبداً حتى في أحلك اللحظات سواداً، بل كان دائماً يدعو إلى التفاؤل، لأن التفاؤل من صفات المؤمن الحق، وهو الذي يستذكر في كل موقف قول نبيه صلى الله عليه وسلم: (أمر المؤمن كله خير فإن أصابه خير شكرَ... وإن أصابه شر صبرَ....) (رواه البخاري). فلا عجب أن ينعكس هذا الإيمان الوطيد بالله في شعوره الدائم بالتفاؤل: (إنني لا أتشاءم، فالمؤمن لا يتشاءم، ولذلك فإنني وطيد الثقة من أن هذه الغيوم ستختفي من سمائنا، فيد الله - عزَّ وجلَّ - ستعيد الشارد إلى الجادة مهما تعثر أو ضل، وإن إرادة الحياة وقوة الإيمان فينا لن تجعل من حاضرنا مدفناً لأمجاد ماضينا). وهو يعرف أنه لن يتأتى الانتصار في معركة التحدي التي تواجهها أمته إلا بذلك الشعور بالمسؤولية على مستوى الأمة، المسؤولية أمام الله؛ لهذا نجده بعد أن يحدد المسؤولية، ويشخص الداء، يشير إلى الدواء: (إننا - عرباً ومسلمين -.. مسؤولون كل المسؤولية أمام الله.. ثم أمام الأمة والتاريخ.. عما نشهده من عدوان على الحق.. واستهانة بالحقيقة.. واغتصاب للحقوق.. وإن السبب في ذلك.. يعود بشكل أساسي إلى هدر قوانا في معارك جانبية.. وخلافات هامشية.. وانشغال بعضنا ببعض في لحظات الحسم.. مما يعطي الفرصة لأعدائنا.. وللقوى الكبرى.. لتحقيق مصالحها ومخططاتها على حساب مصيرنا. إنني أدعو اليوم.. كافة أبناء هذه الأمة - شعوباً وقادة -.. لتوحيد الصف والجهد.. وتكريس الإمكانيات لتحقيق الخلاص.. ولنعلم أن التاريخ لا يرحم.. والأجيال لا تعذر.. وإننا جميعا ذاهبون.. فلكل أجل كتاب.. ولكل عمل كريم ثواب.. ولكل نبأ مستقر). ولا يزال عبدالله بن عبدالعزيز يدعو إليها على مدى مراحل حياته المثمرة بالعمل والوفاء والمروءة ونكران الذات مواطناً وأميراً ورئيساً للحرس الوطني ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، وولياً للعهد حتى أصبح ملكاً وخادماً للحرمين الشريفين في يوم الاثنين 26 جمادى الآخرة 1426ه الموافق الأول من أغسطس 2005م.