تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة عن تعريف الانتحار وبعض الإحصائيات العالمية والمحلية حول مدى انتشار هذه الظاهرة. والآن سأبسط أسباب الانتحار والتي يمكن تقسيمها إلى العوامل التالية: أولاً: العوامل الاجتماعية ومنها: الطلاق والعنوسة لكلا الجنسين والتنافس الشديد في ميدان العمل والحياة ووجود الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وضعف الدعم الاجتماعي والانعزال (وخصوصاً في ظل انتشار الأحياء المكبوتة والمليئة بكتل إسمنتية خالية من مساحات خضراء يلتقي ويتنفس فيها أصحاب هذه الأحياء). أما بالنسبة للبطالة فإنها تعد عالمياً أحد أسباب الانتحار. وكذلك تزيد المهن ذات الضغوط الشديدة من نسبة الانتحار ويأتي في مقدمتها الطب البشري وخصوصاً لدى النساء وطب الأسنان والمحاماة..الخ. وتزيد نسبة الانتحار لدى أفراد الطبقات الاقتصادية والاجتماعية العالية، وكذلك لدى من افتقر بعد غنى. وقد أوضحت دراسة سعودية أجراها أستاذ الاجتماع د. صالح الرميح في الرياض عام 2007 أن (غالبية من قاموا بمحاولة انتحار فاشلة كانوا من فئة الرجال ذوي الدخل المحدود ومن العاطلين عن العمل ومن الحاصلين على مؤهلات متوسطة وثانوية والذين لم يمكنهم الوصول لمراكز مهنية عليا في المجتمع، وهم ليسوا كذلك من الأميين الذين لا يعلقون على أوضاعهم التعليمية آمالاً عريضة. وغالبيتهم أيضاً يؤمنون بحرمة الانتحار ورغم ذلك أقدموا عليه. وأغلبهم كذلك لا يتعاطى أي مخدرات لكنهم تعرضوا لسوء معاملة من والديهم في مرحلة الطفولة ويفتقدون أيضاًً لدعم الأهل والمجتمع). ثانياً: العوامل النفسية وأكثر العوامل النفسية دفعاً للانتحار هو فقدان الأمل. ومن العوامل الأخرى: الحزن على فقدان عزيز والتأنيب القاسي للذات، وكذلك الرغبة في الانتقام من المجتمع وإظهار القوة وتوجيه الغضب المكبوت للذات. وأحياناً يدفع المنتحر للانتحار إحساسه بالمهانة وحقارة النفس والرفض من الآخرين فينتحر رغبة في عقاب الذات أو التضحية بالنفس أو الهروب من مشاكله والانتقال كما يعتقد لحياة أفضل في الآخرة. وأحياناً يندفع الشاب للانتحار محاكاة لحالات انتحار متفشية في ذلك الوقت (كالذي حدث ومازال يحدث في زمن الربيع العربي حيث هناك نوع من الاحتفاء والترميز للمنتحرين وحالة بوعزيزي تونس خير مثال. وكما يحدث حالياً في السعودية حيث هناك تغطية إعلامية وإلكترونية كبيرة لحالات الانتحار ولأماكن تنفيذه كالجسر المعلق في الرياض). ثالثاً: العوامل البيولوجية والوراثية : فقد أكدت بعض الدراسات وجود خلل في نسبة مادة السيريتونين ومادة النورأدرينالين في الدماغ لدى بعض المنتحرين.وكذلك أكدت دراسات أخرى أن نسبة السلوك الانتحاري تزيد لمن كان لديهم خلل جيني في تصنيع إنزيم تربتوفان هيدروكسيلاز المسئول عن تصنيع مادة السيرتونين. وكذلك فقد أظهرت دراسات التوائم وغيرها أن الانتحار ربما ينتقل وراثياًً.وتفسير ذلك بأن ينتقل وراثيا لبعض الناس من أحد والديه أو كليهما خلل في القدرة على كبح نزوة الانتحار عندما تراوده. ولذا فربما أدى هذا الخلل الجيني لمحاولة الانتحار في مرحلة عمرية ما وذلك عندما يداهم المصاب به مرض اكتئاب حاد أو يمر بضغط نفسي واجتماعي شديد. رابعاً: الأمراض النفسية والباطنية: أهم أسباب الانتحار والذي لحسن الحظ يمكن علاجه بفعالية هو وجود الأمراض النفسية وخصوصاً مرض الاكتئاب. وتؤكد الدراسات أن قرابة 95% من المنتحرين أو ممن حاولوا الانتحار قد تم تشخيصهم بأمراض نفسية (80% مرض الاكتئاب و10% مرض الفصام و5% مرض الهذيان أو الخرف و25% من المنتحرين مدمنون للخمر كذلك). وتزيد احتمالية حدوث محاولة انتحار أخرى لدى من قد كسر الحاجز وحاول الانتحار سابقاً في حياته. وقد تابع باحثون نفسيون البيانات الصحية لقرابة مليون شخص في الدانمرك وذلك لمدة 36 عاماً ونشروا نتائج بحثهم في دراسة شهيرة نشرت بمجلة أركايف للطب النفسي العام بنهاية عام 2011. وقد أكدت هذه الدراسة (أن نسبة الانتحار تصل لقرابة 7-8% لدى المصابين بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب أو الاكتئاب أو الفصام مقارنة بنسبة 0.72% لدى عامة الرجال، وتصل لقرابة 4-5% لدى المصابات بالفصام أو الاضطراب الوجداني مقارنة بنسبة 0.26% لدى عامة النساء). وتزيد نسبة الانتحار لدى المصابين بأمراض باطنية مزمنة وخصوصاً إذا ما كانت مصحوبة بفقدان للحركة أو القدرة على العمل أو التواصل الاجتماعي أو سببت آلاماً شديدة أو تشوهات وخصوصاً لدى النساء. و بعض أدوية هذه الأمراض كالأنترفيرون والأدوية الكيميائية والكورتيزون قد تؤدي للإصابة بمرض الاكتئاب الذي ربما يؤدي بدوره للانتحار إذا ما تم تجاهل علاجه. ودعوني أسترسل قليلاً للحديث عن مسبب الانتحار الرئيسي وهو مرض الاكتئاب. فهذا المرض يصيب قرابة 10% من الناس وخصوصاً النساء. وأثبتت دراسات متعددة أن الاكتئاب عامل رئيسي للإصابة بالنوبات القلبية القاتلة والجلطات الدماغية ومرض السكري.. إلخ. وتخسر أمريكا قرابة 40 مليار دولار سنوياً كخسائر مباشرة بسبب مرض الاكتئاب. ولذا فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن مرض الاكتئاب سيتبوأ قريباً المرتبة الثانية عالمياً في مصاف الأمراض المؤدية للعجز بعد أمراض شرايين القلب التاجية. ورغم توفر علاجات فعالة جداً لمرض الاكتئاب إلا أن نصف مرضى الاكتئاب لا يتلقون أي علاج و20% منهم فقط ممن يتلقون العلاج الكافي المتسق مع التوصيات العلمية. هذه إحصائيات العالم الأول...فيا ترى ما هو حال العالم الثالث؟!!! استشاري الطب النفسي الجسدي - أستاذ مساعد - كلية الطب - جامعة الملك سعود