وعندما ننظر إلى وضع اللغة العربية في سوق العمل نجد أن المبالغة في أهمية اللغة الإنجليزية واشتراط إجادتها كتابة وقراءة وتحدثا من قبل الشركات الأجنبية قد أصبح ظاهرة تستحق الوقوف عندها وتأملها بل وتأمل انعكاساتها على مصلحة الوطن وملامح الهوية، ومن المتوقع أن تزداد مزاحمة اللغة الأجنية للعربية شراسة في سوق العمل مع استفحال ظاهرة العولمة إذا ترك الحبل لهذه اللغة الاجنبية على الغارب, ويكفي أن نعرف أن اشتراط إجادة اللغة الإنجليزية، سواء كانت ضرورة للعمل أو لم تكن، قد وقف حائلا أمام المواطن العربي في منطقتنا العربية دون الحصول على لقمة العيش، وفتح الباب على مصراعيه لأعداد غفيرة من الاجانب حلوا محل المواطنين، وكلف المواطن العربي الكثير كي يتعلم هذه اللغة ويجيدها من أجل أن ينافس العامل الأجنبي، ومن المنتظر أن تسهم الشركات العالمية العابرة للحدود في تعميق هذا الوضع وجعله أشبه ما يكون بالأمر الواقع، مما يتسبب في استجلاب المزيد من العمالة الأجنبية، وسد الباب أمام المواطن العربي إلا إذا وفى بهذا الشرط المجحف، الذي لا يشترط في أي بلد متقدم, لقد خلق تكاثر العمال الأجانب وتشبه بعض العرب بهم بهذه الطريقة أزمة لغوية في الوطن العربي فأصبح المواطن غريباً لغويا في كثير من المؤسسات والشركات وأماكن النفع العام, مثل المستشفيات والفنادق ووكالات السفر وبعض المطاعم، وأصبح من الواجب على المواطن كي يحصل على مطلوبه من الخدمة أن يتعلم لغة أجنبية، وهو وضع شاذ لا نكاد نجد له مثيلا في البلاد المتقدمة إذ ان المسؤولية اللغوية تقع على عاتق العامل الأجنبي فهو الذي يطلب منه عادة إجادة لغة البلاد التي ينوي العمل فيها وليس العكس. لقد كان من آثار التضخيم الإعلامي لأهمية اللغة الأجنبية وسد باب العمل أمام المواطن العربي دون إجادة هذه اللغة أن ارتفعت الأصوات تنادي بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال منذ نعومة أظافرهم بادعاء أن إتقان اللغة الأجنبية إنما يتم في هذه السن المبكرة، بل إن بعض المدارس أخذت تعلم بعض المواد العلمية للأطفال باللغة الاجنبية، على أساس أن يتعرف الطالب عليها منذ الصغر لتسهل عليه دراستها في المراحل المتقدمة, وهذه الأصوات والممارسات تذكرنا بالأيام الأولى للاستعمار في البلاد العربية مصر وسورية والمغرب العربي حين أخذ الإنجليز بنجلزة التعليم تمهيدا لطمس الهوية العربية لمصر وقام الفرنسيون بفرنسة التعليم في بلاد الشام وفي بلاد الشمال الافريقي العربية للسبب نفسه، وكان العذر الوحيد الظاهر هو جذب هذه البلدان إلى أحضان التقدم والرقي, والفرق بين الحالين أن الوضع في عصر العولمة يتم بمبادرة تلقائية من العرب العاملين في مجال التربية والتعليم، دون النظر للآثار الخطيرة التي يسببها تعليم اللغة الأجنبية للصغار على انتماءاتهم الوطنية، فيكرس في نفوسهم الغضة التبعية للأجنبي والاستخفاف بكل ماهو عربي، وازدراء التراث العربي والتعلق بأنماط الثقافة الى جانب أن كثيرا من المدارس الخاصة التي انتهجت هذا النهج قد كونت نوعا من الطبقية في المجتمع الواحد، أدت إلى شروخ ثقافية في المجتمع وأسهمت في تفتيت وحدته, وأكبر مثال على ذلك ما يحدث في لبنان الآن الذي قادت المدارس الخاصة فيه هذه التجربة منذ وقت مبكر، وذلك بتدريس اللغات الأجنبية للأطفال أولاً ثم بتدريس المواد العلمية لهم منذ المدارس الابتدائية والمتوسطة باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية حسب انتماء المدرسة إلى أي من الثقافتين، مع تدريس بعض المواد باللغة العربية، وبذلك أقصيت اللغة العربية عن مكانها الطبيعي والطليعي في التعليم لتحل محلها اللغات الوافدة، التي كونت طبقية جديدة بين أفراد المجتمع تعتمد على الثقافة الأجنبية المكتسبة، واستتبع ذلك ظهور شعور بالنقص لدى خريجي المدارس العربية وذويهم، ولم يلبث التعليم الرسمي أن فتح الباب على مصراعيه للمدارس الرسمية بالقرار رقم 5589 الصادر عام 1994م كي تدرس المواد العلمية بالمدارس الابتدائية بإحدى هاتين اللغتين اللتين أخذتا تتصارعان على أرض الواقع، لتنتج بسببهما انتماءات ثقافية متعددة قد تصيب الوحدة الوطنية في الصميم. وإذا كان هذا القرار قد ساوى بين المدارس في البلاد فإن تلك المساواة لم تكن في الواقع في صالح التحصيل الدراسي، بل لابد أن تكون قد أسهمت بشكل ملموس في ضعف الطلاب في المواد العلمية، لأن تدريس هذه المواد باللغة الأم وهي العربية يعطي الطلاب ذخيرة أوفر ويحقق جودة أعمق ويخفف من كثرة الرسوب والتسرب, إن الدراسات العلمية تشير إلى أن للغة العلمية بعداً اجتماعيا لا يدركه الطالب الأجنبي يمكن أن يؤثر على الفهم والاستيعاب تأثيرا واضحا ففي بحث لصوما بو جوده وفؤاد صياح وهما أستاذان جامعيان لبنانيان والأول منهما مختص في موضوع تعلم العلوم والمفاهيم العلمية نقرأ الآتي: دلت الدراسات الميدانية في الولاياتالمتحدة أن للغة تأثيرا مهما على استيعاب المفاهيم العلمية ولكن هنالك ماهو أدق إذ يؤكد garaway أن العامل اللغوي في تدريس العلوم بلغة أجنبيةوالمقصود هنا غربية يتخذ هنا مظهرين مختلفين: المظهر الأول يؤثر على الناطقين باللغة الأجنبية وغير الناطقين بها على السواء وهو يتناول الاستعمال اليومي واللغوي لكلمة ما, أما المظهر الثاني وهو يؤثر على غير الناطقين باللغة الأجنبية من حيث أنه يتعلق بالخلفية الثقافية لهؤلاء الاشخاص، إذ انهم بالإضافة إلى إمكانية عدم معرفتهم الجيدة للغة الأجنبية يحملون خلفية ثقافية مختلفة عن الخلفية الغربية، وهي تؤثر على كيفية حل المشاكل العلمية, لذلك، يضيف ، garaway ، فإن غير الناطقين باللغة الأجنبية الذين يتعلمون العلوم بهذه اللغة يواجهون مشكلة ذات وجهين: ضعف اللغة واختلاف الثقافة، بالإضافة إلى المزج بين اللغة اليومية واللغة العلمية مع ما يستتبع ذلك من المشكلات في تعليم العلوم ، ومن النظريات الخاطئة عند المعلمين افتراضهم أن قدرة التلاميذ على التكلم بلغة ماكافية لاستيعاب مفاهيم علمية بواسطة هذه اللغة, فإذا ما أخذنا البعد الاجتماعي للغة العلمية بعين الاعتبار لوصلنا إلى الاستنتاج بأن للغة الأم أفضلية في تعليم العلومصوما بو جودة وفؤاد صياح: تعليم العلوم باللغة العربية: اتجاهات وحلول، اللغة والتعليم، ص151 152 وقد استعرض الباحثان الدراسات التي تناولت هذه القضية في بيئات ودول مختلفة مثل الدراسة التي قام بها مجموعة من الباحثين حول استيعاب طلاب استراليين وهنود لمفاهيم علمية تتعلق بطبيعة المادة، أجابت عليها كل مجموعة منهما بلغتها الخاصة فأظهرت نتائج الاختبار عدم وجود اختلاف بين تحصيل المجموعتين مما يدل على أن اللغة ليس لها علاقة باستيعاب المفاهيم العلمية في نظامين تربويين يستخدمان مناهج متشابهةلانتمائهما إلى مجموعة الكومنولث ويختلفان في لغة التعليم, كما استعرضا دراسات مثل هذه على طلاب اسكوتلانديين وماليزيين، وطلاب كينيين درسوا بالإنجليزية وباللغة السواحلية، كما استعرضا دراسة لباحث آخر اسمه ehendero أجرها في الصفوف الابتدائية في نيجيريا بينت أن استخدام اللغة الأم في تعليم العلوم يحسن التحصيل في هذه المادة، ودراسة مجموعة من الباحثين تتناول تأثير استخدام اللغة الإنجليزية بشكل حصري ومنع استخدام اللغة المحلية على استيعاب الطلاب للمفاهيم العلمية، وقد أظهرت النتائج أن فهم الطلاب للعلوم قد تأثر بشكل سلبي عند استخدام الإنجليزية بشكل حصري بينما مكن استخدام اللغة الأم من جعل المادة العلمية ذات معنى من خلال ربطها بحياة الطلاب العادية, وفي ثلاث دراسات أجريت على الطلاب الفلبينيين الذين يستخدمون اللغة الفلبينية في دراسة العلوم تبين أن هؤلاء الطلاب قادرون على فهم التعابير العلمية بشكل أفضل من الطلاب الذين يستخدمون اللغة الإنجليزيةنفسه: ص: 152 156 تلك بعض من دراسات علمية شملت نماذج من دول العالم المختلفة كلها تثبت بما لا يقبل الشك أو الجدل أن استعمال اللغة الأم وبخاصة في المراحل الأولى من التعليم أولى من استعمال اللغة الأجنبية، لا من باب التعصب القومي أو الشعور العاطفي نحو الذات، وليس من باب رفع الشعارات ولكن استنادا إلى حقائق موضوعية علمية تنير الطريق نحو المخططين الذين يريدون لبلادهم أن تمتلك العلم والتقنية في عصر هو عصر العلم والتقنية, وإذا تركنا هذه الدراسات جانبا ونظرنا في تجارب الدول المتقدمة التي يجدر بنا أن نستفيد من تجاربها المفيدة وجدنا أن هذه الدول جميعا بلا استثناء لا تعلم اللغة الأجنبية في المرحلة الأولى من التعليم، كما أنها لا تعلم العلوم بتاتا بلغة أجنبية في أي مرحلة من مراحل التعليم, فهل غفلت هذه الدول عن الفوائد الكبيرة التي انتبه إليها المخططون التربويون العرب وحدهم؟ ما بالنا ندير ظهورنا لهذه الحقائق الناصعة لنجري وراء سراب اسمه اللغة الأجنبية، ولماذا لا يسعنا ما يسع شعوب الأرض التي خطت خطوات حثيثة في سبيل التقدم باستخدام لغاتها القومية في التعليم بكل مراحله، وإلى متى كتب علينا أن نظل ضيوفا ثقلاء على فتات موائد هذه الأمم المتقدمة، يمنحوننا متى شاؤوا ويحرموننا متى شاؤوا، وتأبى العولمة في هذه الحالة إلى أن تجعل منا أجراء لمشروعاتها، أو مستهلكين لبضائعها، او سماسرة لأسواقها، أما الإبداع والمشاركة في صنع الحضارة والوقوف أمام الهيمنة الحضارية فلا يكون بالوسائل التي اتبعناها منذ بدأت علاقتنا بالغرب والقائمة على تقديس اللغة الأجنبية, وإنما يتم ذلك بمشروع نهضوي يعمل على توطين التقنية في البلاد العربية ولن يتم ذلك إلا من خلال الإصلاح التربوي الحقيقي الذي يجعل العرب يتعلمون بلغتهم ويفكرون بها ويبدعون من خلالها مع تهيئة البيئة المتوازنة ذات الاستراتيجية الواحدة التي تتكون من حلقات مترابطة يعتمد بعضها على بعض للوصول إلى الهدف. إن الاعتزاز باللغة العربية لا يكون من خلال الخطب الرنانة والتعبيرات الشعرية والمديح المتكلف، وإنما يكون من خلال التطبيق العملي لإحلال هذه اللغة محلها اللائق في نفوس الصغار بحيث ينشؤون على حبها والتعلق بها وجعلها سهلة ميسرة لهم والبعد بها عن التكلف وصياغة المادة العلمية والإعلامية والترفيهية لهم بلغة فصحى جميلة محببة، وإشعار هم عمليا بقدرتها على استيعاب المنجزات الحضارية ، وتنمية المهارات اللغوية لدى هؤلاء الطلاب، وإكسابهم القدرة على التفكير المنظم بلغتهم الأم, ولا يقتصر الأمر على ذلك بل لابد أن يجد الإنسان العربي لغته فاعلة في المجتمع، مقبولة في المجالات المختلفة من تجارة وصناعة ووسائل إنتاج وتوزيع، حتى إذا تخرج الطالب وجد العمل المناسب لايرده عنه شرط اللغة الإنجليزية، إلا إذا كانت طبيعة عمله تتطلب ذلك، في مواقع محددة ومعروفة سلفا، يتهيأ لها الإنسان أو يؤهل لها، حتى نتفادى حالات الفشل التي رافقت حركات التعريب في بعض الدول العربية ، حين أهل الطلاب بالعربية في جهد وطني شاق ورائع، وعندما خرجوا إلى الحياة أوصدت الأبواب في وجوههم من قبل المتنفذين من أتباع اللغة الأجنبية بحجة ضرورة إجادة هذه اللغة، فأجهض الهدف وانكمشت حركة التعريب الإصلاحية، وابتعد الناس عن اللغة العربية ليزدهر التغريب وتتحقق التبعية.