استكمالاً لما تم إيضاحه في الدرس الأول من الدروس المستفادة من سيرة الملك عبدالعزيز والمنشور في صحيفتنا صحيفة الجزيرة في عددها رقم 14367 الصادرة يوم الأحد السادس من ربيع الأول لعام 1433ه فسأتحدث في هذا الدرس عن الفوائد التي يمكن استنتاجها من تأسيس الملك عبدالعزيز -يرحمه الله تعالى- دولته على التوحيد فإن الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبدالعزيز- يرحمه الله تعالى- هي امتداد للدولتين السعودية الأولى والثانية، فإن الدولة السعودية الأولى تأسست على يد الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى في عام 1158ه؛ الذي ناصر الإمام محمد بن عبدالوهاب، على الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك, واستمرت هذه الدولة حتى وفاة الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى سنة 1179 ه، وأما الدولة السعودية الثانية فتأسست على يد الإمام تركي بن عبدالله يرحمه الله تعالى واستمرت حتى عام 1308ه، ثم قام الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى بتأسيس الدولة السعودية الثالثة ابتداء بفتح الرياض في عام 1319ه، ويتضح جلياً من أقوال الملك عبدالعزيز وأفعاله ما يبين تأسيس المملكة العربية السعودية على العقيدة السلفية ويمكن إيجاز أهم مظاهر ذلك فيما يلي : 1- إيضاح الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى أن الأساس الذي قامت عليه المملكة العربية السعودية هو عقيدة السلف، وتأكيده على أنه أقام هذه الدولة على معتقد أسلافه، وهو عقيدة السلف الصالح فيقول: «على أنه في آخر الأمر أظهر الله -تعالى- شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ثم من بعدهما الشيخ محمد بن عبدالوهاب يرحمهم الله تعالى - ونفع بهم الإسلام والمسلمين، وخصوصاً محمد بن عبدالوهاب، عندما اندرست أعلام الإسلام، وكثرت الشبهات والبدع، فلما رأى أسلافنا موافقة أقوالهم وأفعالهم لما جاء في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قبلوا ذلك، وقاموا بما أظهره الله -تعالى- على أيديهم، ونحن إن شاء الله -تعالى- على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا على ذلك، ويميتنا عليه، وقد عرَّفناكم بذلك لموجب ذكر المشايخ في الاعتقاد والعمدة على ما قالوه». وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى لا يتوانى عن الإعلان؛ الذي لا تكاد تخلو منه مناسبة من المناسبات؛ على أن المملكة العربية السعودية هي امتداد للدولة السعودية الأولى، والدولة السعودية الثانية، وأن هاتين الدولتين تم تأسيسهما على عقيدة السلف. 2- أن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى كان يصرح بكل وضوح وفي مناسبات كثيرة أنه خاض جميع حروبه التي تجاوزت مائة معركة من أجل إقامة دولته على العقيدة السلفية الصافية وهي : عقيدة التوحيد، حيث يقول في إحدى المناسبات يقول يرحمه الله : « تعلمون أننا ما دخلنا الحجاز إلا بعد أن حوربنا في وطننا، وإنا والله لا نُقبِل على أمر إلا إذا ابتلينا فيه، وإذا ابتلينا في شيء دافعنا عن ديننا، وأنفسنا، ووطننا؛ فيأخذ الله بيدنا، وهذا من فضل الله علينا. وإذا ما بلغنا إلى جهة من الجهات أمرنا أهلها باتباع كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما نحن إلا مجاهدون في سبيل الله. وإن أول شيء نحافظ عليه ونَعضُّ عليه بالنواجذ ونحارب دونه -ولو أهل الأرض- هو ديننا ووطننا، وهذان الأمران لا نقبل فيهما قولاً، ولا تصرفاً، ولا هوادة. وإننا نبذل النفس والنفيس دونهما لأنهما عظيمان عندنا، ولا يمكن أن نتخلى عنهما ولا قيد شعرة». ويقول رحمه الله تعالى في مناسبة أخرى: مؤكداً على أنه يجاهد لإعلاء كلمة التوحيد، ونشر عقيدة السلف : « وإني أعتمد في جميع أعمالي على الله وحده لا شريك له، أعتمد عليه في السر والعلن، والظاهر والباطن، وإن الله -تعالى- مسهل طريقنا لاعتمادنا عليه، وإني أجاهد لإعلاء كلمة التوحيد والحرص عليها، وأحب أن أراها قائمة ولو على يد أعدائي، وإن تمت على يدي فذلك فضل من الله -تعالى-، وكل عمل لا يتم إلا بالإخلاص». ويقول رحمه الله تعالى في مناسبة ثالثة: « وإنني أود أن نفنى أنا وأولادي في سبيل الله. والمسلم لا يبيت في فراشه إلا على نية الجهاد، وكذلك من لا يود أن يموت في سبيل الله -تعالى- لا يكون صحيح العقيدة. ولقد سبقت لي في الجهاد صفحات ماضية ما بالايت أن قطعت عضدي في سبيل الله، لأنني لا أقبل في الله -تعالى- لومة لائم، ولأن أكثر ما يهمني هو المحافظة على كلمة التوحيد ثم على محارم المسلمين. ونسأل الله -تعالى- أن يحيينا مطيعين له، خاشعين في عبادتنا صادقين في إيماننا». ولم يكن الملك عبدالعزيز رحمه الله يريد الحرب إلا إذا اضطر إليها؛ فإنه في الحقيقة يحب السلم ويدعو إليه حيث يقول: «وإني والله أحب السلم وأسعى إليه، فإذا ما ابتليت صبرت حتى إذا لم يبق في القوس منْزَع وحان وقت الدفاع عن الدين والوطن فعلت: إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها وهنا لا يكون إلا إحدى الحسنيين، إما السعادة وإما الشهادة، وكلاهما نعمة من الله -تعالى-، ونحن نقابل أيهما بصدور رحبة، ووجوه باشّة. وهذه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من بعده رضوان الله عليهم». 3 - تصريح الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى؛ ثم أبنائه من بعده بأن هذه الدولة قامت على عقيدة السلف، وأن ولاة الأمر فيها يسعون بكل ما يستطيعون لنشر هذه العقيدة، ومعاقبة من يخالفها؛ جعل بفضل الله تعالى لهذه الدولة المسلمة القدر المعلا في قيامها على عقيدة السلف الصالح؛ واستمرارها على ذلك. فلم يكن الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى يتردد أو يتوانى في الإعلان في معظم المناسبات إن لم تكن جميعها على قيام هذه الدولة على عقيدة السلف الصالح حيث يقول رحمه الله تعالى حين دخل الحجاز بتواضعه المعهود : « نحن دعاة ولسنا بحكام، دعاة لدين الله تعالى، والإخلاص لعبادة الله -تعالى-، ولم نقدم من ديارنا إليكم إلا انتصاراً لدين الله». 4 - منع الحكم بالقوانين والأحكام القبلية، فإنه على هذا الأساس منع الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كما أسلفت؛ سواء كان هذا الحكم ما ينتشر بين القبائل من تحكيم الأعراف والعوائد السائدة أو كان ذلك الحكم بتحكيم القوانين الوضعية. وقد اتخذ الملك عبدالعزيز في ذلك مرجعية تقوم عليها الأحكام الخاصة والعامة في البلاد وهي الشريعة الإسلامية، وبهذا الاختيار لتلك المرجعية باعتبار أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع في المملكة، والتي تحظى ليس فقط بقبول سكان المنطقة بل كانت مطلبا من مطالبهم؛ يكون الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى قد وضع العمود الفقري للأمن في البلاد. ولم يكن يضعها نزولاً عند رغبة الآخرين فقط بل عن قناعة واختيار منه، فالشريعة عنده كلها خير، وهي كذلك أساس الحكم، فنراه يؤكد ذلك إذ يقول رحمه الله تعالى مخاطباً مجلس الشورى: «وأنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشرع الإسلامي. وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سنّ كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط ألا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية.لأن العمل الذي يخالف الشرع لن يكون مفيداً لأحد، والضرر كل الضرر هو السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم «. ولم يكتف الملك عبدالعزيز رحمه الله بمنع تحكيم القوانين بل أمر بمنع وإزالة كل ما يتعارض مع عقيدة السلف من شرك وبدع. 5 - أن شعار المملكة العربية السعودية والذي يراه كل أحد، حيث اتخذته المملكة العربية السعودية بأمر من الملك عبدالعزيز ليكون مرسوماً على علمها وهو كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الزركلي رحمه الله تعالى في كتابه الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز: العَلَم والشعَار، في المملكة العربية السعودية، هما للملك والدولة معاً، والشعار سيفان فوقهما على الوسط نخلة، ولون العلم أخضر -رمز للجهاد- وفي وسطه بِلَوْن أبيض، سيفان متقاطعان، فوقهما جملة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقد يُكتفى تحت هذه الجملة، بسيف واحد مستطيل. ولا ينكس العلم السعودي في المناسبات الداخلية والدولية لوجود اسم الله تعالى فيه « وعلى هذا الأساس فقد حقق الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى ما كان يهدف إليه، وهو أن تقوم هذه الدولة على عقيدة السلف الصالح، ولقد حرص يرحمه الله تعالى على الإعلان عن تمسكه بعقيدة السلف ودعوته إليها والتأكيد على أنه أقام هذه الدولة على هذه العقيدة السلفية متمسكاً بكتاب الله تعالى، وسائراً على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومتبعاً لعلماء السلف يرحمهم الله تعالى فنراه يرحمه الله تعالى يصرح بذلك فيقول: «إن اعتصامي بالله وسيري على الطريقة المحمدية واقتدائي بعلماء المسلمين يدعوني -إن شاء الله تعالى- لعدم الجموح بالنفس، وقد عاهدت الله -تعالى- على ثلاث: أولاً: الدعوة لكلمة التوحيد، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل. ثانياً: الأخذ على يد السفيه، وتحكيم السيف فيه. ثالثاً: الإحسان للمحسن والعفو عن المسيء. وبناء على ذلك يمكن بيان أهم الدروس المستفادة من تأسيس الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى المملكة العربية السعودية على عقيدة السلف الصالح كما يلي: 1 - أن الملك عبدالعزيز كان واضح الهدف منذ أن عزم على تأسيس دولته، فقد كان يصرح بكل وضوح أنه يحارب ويبذل الغالي والنفيس حتى روحه التي بين جنبيه من أجل تحقيق العقيدة الصافية التي هي عقيدة السلف تلك العقيدة التي ارتضاها الله لعباده، وأوضحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح بيان، ثم قام بنشرها علماء السلف، ونشأت عليها الدولتان السعوديتان الأولى والثانية، وهذه العقيدة هي عقيدة الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى وأجداده من قبله رحمهم الله جميعاً. 2 - أن الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى لم يذكر كلاماً نظرياً فقط بل قال وفعل، ووعد فأوفى فأقام المملكة العربية السعودية على عقيدة التوحيد، وأزال كل ما يتعارض معها من الشرك والبدع ومن تحكيم غير شرع الله سواء كانت قوانين وضعية أو أحكاما عرفية قبلية وأنشأت المحاكم على هذا الأساس فالحكم هو حكم الله تعالى ولا حكم إلا حكم الله عز وجل، وأول من كان يطبق ذلك هو الملك عبدالعزيز نفسه فقد كان لا يتردد في الانصياع للقضاء حتى لو كانت الدعوى ضد الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى. 3 - أن الملك عبدالعزيز كان يعلن لكل أحد أن المملكة العربية قامت على عقيدة السلف فلم يكتف ببيان ذلك للسعوديين فقط بل كان كان يوضح ذلك لجميع الوفود التي كانت تقدم للمملكة من خارجها، وكان يرفع علم المملكة في كل محفل وهو يحمل شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا ينكس هذا العلم في أي وقت بل يبقى مرفرفاً مرفوعاً حاملاً لا إله إلا الله محمد رسول الله. 4 - أن الملك عبدالعزيز يعتبر أن قيام المملكة العربية السعودية وأهلها بخدمة عقيدة السلف هو شرف لهم، وتوفيق من الله تعالى لهم وقد صدق رحمه الله تعالى فإن العقيدة الصحيحة هي أجل العلوم، وهي دعوة جميع الرسل من أولهم لآخرهم كما قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (سورة النحل؛ الآية: 36). ولنا لقاء قادم إن شاء الله تعالى مع درس جديد من الدروس المستفادة من داعية التوحيد الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى. ***** (1) عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، ج2، ص:302-303 (2) الملك عبدالعزيز الشخصية والقيادة، ص: 53 (3) مختارات من الخطب الملكية، ج1، ص: 64 (4) مختارات من الخطب الملكية، ج1، ص: 63 (5) مختارات من الخطب الملكية، ج1، ص: 147 (6) المرجع السابق، ص: 66 (7) الملك عبدالعزيز الشخصية والقيادة، مرجع سابق، ص: 36 (8) عبدالعزيز الملك الذي أحب شعبه، ص: 160، المصحف والسيف، ص: 64 (9) الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز، ص: 248 (10) الدعوة الإصلاحية، مرجع سابق، ص: 216- 217 - عضو الجمعية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب