بالأمس القريب احتضنت درة المدائن العربية «الرياض» المهرجان الوطني للثقافة والتراث «الجنادرية» في نسخته السنوية الجديدة، والذي يُعنى بالتراث والمأثور الوطني والشعبي، إلى جانب العناية بالأمسيات الفكرية والعلمية والشعرية والقصصية. ويُعد بشهادة العديد من الخبراء أبرز التظاهرات الثقافية على الساحة العربية. تلا ذلك، بأيام معدودة، تظاهرة ثقافية أخرى مهمة، وأعني بها معرض الرياض الدولي للكتاب، في نسخته السنوية الجديدة كذلك. ولا أكاد أعدو الحقيقة كثيراً إن قلت عن هذه المناسبات والأسابيع الثقافية بأنَّها إضاءات متجددة، وإضافات مشرقة، تحاكي التألق والإبداع في محتوى المشهد الثقافي السعودي، مثل ما تحاكي الوعي الثقافي المجتمعي المُطِّرد بالقيمة العالية لمصادر العلم والمعرفة والإبداع الإنساني، والقيمة التاريخية للتراث والموروث الوطني بكل أشكاله وعناصره. هي، بأيامها وأمسياتها، فرصٌ متاحة للجميع لتعزيز رصيدهم الثقافي، والتعرّف أكثر على موروثهم الحضاري الموغل في القدم، مثل ما هي فرصٌ كذلك لإرواء عطشهم الفكري والمعرفي، لجديد وروائع المطابع ودور النشر، المستقاة من معطيات الثقافة والحضارة الإنسانية، بامتداداتها التاريخية، بما تحمله من أفكار ورؤى، وعلوم ومعرفة، وبحوث ودراسات، وأحداث وسِيّر، وحكايات وعبر، وروايات وقصص، تلامس الكثير من الهموم الإنسانية، والمتغيِّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية، تعكس بطبيعة الحال ذلك التنوّع الكبير في المحتوى الثقافي الإنساني، وبيئاته. ولعلَّ ممِّا يزيد من جمالية هذه المناسبات الثقافية وتميّزها، تلك العناية بإدارتها، وتنظيمها، وتسويق محتواها، من خلال منظومة خدمية متكاملة على درجة عالية من الاحترافية والشفافية، تتيح للزائرين الاستمتاع بأجواء ثقافية وتسويقية ممتعة، والاطلاع والتصفح بصورة أكبر، وحريات أكثر، وخيارات أوسع، وانتقاء ما يناسب قناعاتهم الفكرية واحتياجاتهم المعرفية، لرصد المزيد من المخزون الثقافي لديهم، وتركيمه خلال الزمن. هذه المعطيات الثقافية نتاجٌ لمراحل من العمل الوطني للدفع بالحركة الثقافية نحو آفاق أكثر حيوية وعطاءً ومشاركة، مع تواتر العمليات التنموية، في إطار الخطط العامة الخمسية للدولة، بما يواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي جرت وتجري في المملكة. هذا الحراك المُطِّرد أفرز العديد من المنجزات الثقافية خلال العقود الزمنية الأخيرة، وطاقات سعودية إبداعية في مجالات كثيرة ومتنوّعة، تترى خلال الزمن، في مجالات التأليف والترجمة، والإنتاج الثقافي والإعلامي والفني المتنوّع، برعاية مؤسسات وهيئات وطنية حكومية وخاصة، من أبرزها: وزارة الثقافة والإعلام، والمراكز الثقافية، والأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، والجامعات والمدارس، والمكتبات العامة، والمؤسسات الصحفية ودور النشر. كل ذلك كان له الدور الأكبر في توطين بيئة خلاَّقة تستوعب زخم هذا الحراك وإبداعه، وتُستثمر لأجله الجوائز الأدبية والثقافية. ويتفاعل مع مخرجاته، المفكرون والمهتمون، رصداً ومتابعة لمعطياته، وإثراءً للمشهد الثقافي بمصادر الإبداع، مع المحافظة في الوقت نفسه على متطلبات الهوية الوطنية وترسيخها، ببعديها: الروحي والثقافي. وفق هذه المنطلقات تبدو أهمية المحافظة على هذه المكتسبات الثقافية، ودعمها، وتطوير قطاعاتها، وشراكاتها العربية والدولية، وارتياد مجالات أوسع أكثر جِدة وإبداعاً، عبر ترسيخ الشفافية في بيئة ثقافتنا الوطنية، وبناء وتعزيز مبادئ الحوار مع الذات الجمعية للأمة الواحدة، واحترام التعدد والتنوّع داخل وعائها، وإتاحة مصادر المعرفة وقنواتها، واحترام وتقدير الفاعلين في الحياة الفكرية والثقافية، وتهيئة مناخٍ يساعد على التجدد الدائم، وتحقيق المزيد من النقلات الثقافية في مختلف مجالاتها الإبداعية، تستلهم القِيم الثقافية للمجتمع السعودي، والمكانة العالية، وقصب السبق، بين الثقافات العالمية، لغاية تأصيل القيمة المعرفية، والتَّطلعات الإنسانية، ومسارات الأُمَّة الحضارية، وصولاً إلى مجتمع المعرفة. كلمة أخيرة: الفعاليات والتظاهرات الثقافية، منجزات تحفظ للمملكة التقدم والريادة والإبداع الحضاري، بما يحتم على الجميع المحافظة على جمالها، وعنفوانها، وتعزيز ثمراتها ومخرجاتها. من مأثور الجاحظ في وصف الكتاب: «هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغْريك، والرفيق الذي لا يملُّكَ... الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك، وشحَذَ طباعَك، وبسَط لسانَك، وجوَّدَ بَنانك، وفخَّم ألفاظَك، وَعمَّر صدرك، وعَرفتَ به في شهر، ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر...».