كانت محقةً الفتاةُ التي تحبّ بعقلها، وتُماري فضائلَ قلبِها؛ ما كان أغنى المرء عن حلمٍ مثاليٍ يتغلغل في أعماقهِ كمِدْية، ما كان أغناه! حين تحيطُ به من كلّ صوبٍ فرصُ المباهجِ القصيرة؛ حيثُ يضوع عطرُ الليمون، حيثُ تأتلقُ المصابيحُ الغاويةُ في الليلِ الناضحِ ندىً، حيثُ الحماقاتُ الصغيرةُ تصّاعدُ كما فقاعاتِ الصابون تنتفخُ حيناً ثم تنفجرُ جذلة، تُحدِثُ وقعَ المفاجأةِ السّارةِ ثم يعقُبها صمتُ النسيان! قال لها «دون كيشوت» وهو يشيحُ بنظرهِ اتّقاءَ وشاية عينيه: (ذلك الحلمُ السخيفُ لم يكن في منامي أنا، بل هو ما رأيتهُ في منامكِ أنتِ! فاندلقتْ حماستي وعفويّتي المعهودَتان أنا الذي بارزَ طواحينَ الهواء وانتصرَ على شيطان البشر أفلا أنتصرُ على نفسي وأحمّلُها وِزْرَ نسبِ الحلمِ الأثير)..! كانت محقّةً بعقلِها، وكان محقّاً بفضائلِ قلبِه.. فلم يتقنْ حفظَ الأدوارِ وموازنةَ التضحيات، مضى أبعدَ من مكابدةِ المسيرِ اليوميّ على خطى الفراشات..واندفعَ مثل راقصِ سيركٍ، يحاولُ إسعادَ من ينظرُ إليه.. لم تكن تلكمُ الرقصةُ مسلّيةً بما يكفي فدنتْ الفتاةُ التي أحبّتْ بعقلها تحاولُ أن تقلّد رقصتَه! رقصتْ كشلالٍ يتناثرُ الرذاذُ الصاخبُ منه لمدىً أبعد من أحلامِ فارسِها؛ تزيّنُ له خوضَهُ المباهجِ العابرة، واقترافَ الحماقاتِ الصغيرةِ التي تجلبُ الذهول.. كانت بعيدةَ النظرِ، متساميةً عن مآثرِ البشر.. توشوشُ حركاتُها: (اذهب ولا تخشَ لوماً.. هي ذي فقاعةٌ ملوّنةٌ تطاردكَ عبر الدهاليز، تريد أن تلقي بنفسها في دفءٍ يُنسيها آلامَ محنةٍ ماحقة.. وهناك في صقيعٍ ناءٍ ستجدُ أخرى مازالت تنتظر، حين لم يعد الآخرُ يليق بها في جوّ الحرية الباردة.. تحررتْ منه وتريد أن تندسّ في جلبابٍ من بردِ المدينةِ وأهلِها ولو في صحبةٍ لأيام معدودات.. فليس يبحثُ أحدٌ هذه الأيام عن رفقةٍ تطول، إنه عصرُ السرعة! حيث الوجباتُ السريعةُ.. والنكاتُ اللماحةُ.. والعلاقاتُ الخاطفة...) كانت، حين اختتمتْ رقصتَها، تشيحُ بوجهها بعيداً ربما اتّقاءً لوشايةِ عينيها! لم تكن الرقصةُ مسليةً بما يكفي فانبرتْ الطواحينُ تؤدّي أمامهُ إيماءةَ الختام: (...هناك الكثيرُ من الفقاعاتِ المتطايرة! وليس من تضحياتٍ عليكَ تسديدها.. ستبقى -بكلّ تلك الحماقاتِ العابرةِ- مَن يعتني بمن حوله.. ينالُ منهم القناعةَ الفضلى، ولذةَ الشعورِ بالرضا.. وستعودُ بين آونةٍ وأخرى تبحثُ عن الفتاة التي تحبّ بعقلها، لتخبرَها عن كلّ تلك المباهج، وتضحكانِ ملءَ شدقيكما منها ومن العذاباتِ المضحكةِ السحيقةِ البعدِ للدون كيشوت! ومن عبثِ الحياةِ الأليمِ الجميل). هامش: (*) «دون كيشوت» هو بطل الرواية التي تحمل نفس الاسم للروائي الإسباني «سيرفانتس». يسخر المؤلف في روايته من أفكار الفروسية وآثار الروايات المفرطة في الخيال الرومانسي. في بعض التراجم العربية ورد الاسم بلفظ : «دون كيخوتة».