أواصل معكم متابعة تغيرات دور المرأة في الجزيرة العربية مرتبطاً بتغير الأطر الثقافية عبر الزمن. وأوضح هنا أن مصطلح «الثقافة» يعني»الفكر السائد في التعامل المجتمعي العام وبالتالي الممارسة اليومية», وليس فقط ما نستعرضه عادة من الإيجابيات والمنجزات؛ حيث إلى جانب الأعداد المفرحة من أستاذات الجامعات والخريجات والطبيبات وحاملات الأوسمة, هناك الإحصائيات المفجعة التي ظلت ضمن المسكوت عنه مجتمعياً وقضائياً, كحالات تزويج القاصرات والتعنيف والعضل والطلاق لرغبة تجديد الفراش؛ ومنهن مع الأسف من تشمله الإحصائيات الرسمية للنخبة أعلاه. ذكرت في المقال السابق أربعة أطر للثقافة المجتمعية. ونواصل: 5- الإطار الخامس؛ دور المرأة المبعَدة لحمايتها من الذكور: في الثمانينات عايشنا تناقضات الرغبة في تعليم المرأة بالرغبة في الاحتفاظ بها مقيدة الحركة, وتراجع دورها إلى تبجيل الغياب والصمت, بمبرر أنها الدرة المصونة والممتلك الثمين التي لا يجدر بها أن يُرى وجهها أو يُسمع صوتها لئلا تتعرض للتلوث والاستلاب. وقد ارتبطت هذه الفترة ببروز وتكاثر فئتين متناقضتين من القياديات : الداعيات المحذرات من خروج المرأة للعمل كانصياع لمؤامرة تغريب المجتمع، والرائدات المقاومات لضغوط الحجر يعملن غالبا في سلك التدريس والصحة. 6- الإطار السادس؛ مرحلة التشدد وتصاعد التطرف في التسعينات: دور الأنثى المبعَدة ظاهريا (لحماية الذكور من فتنتها), بينما تستقطب في السر مستغلة في مساندة الخلايا الإرهابية بتوزيع المنشورات وتجميع الدعم المادي. 7- الإطار السابع؛ منهج الاعتدال: دور المرأة المواطنة مع بدء القرن الجديد: مع تغير الحالة الاقتصادية, وتزايد عدد السكان خاصة شريحة الشباب بما في ذلك الخريجون وأعداد العاطلين من الجنسين, بدأت حركة إعادة توعية المجتمع أن دور المرأة وحضورها الفاعل في الحياة العامة ليس فقط مستحبا أو ترفا, بل ضرورة مجتمعية لتقوم بدورها الاقتصادي في إعالة أفراد الأسرة المتزايد أعداد أفرادها وملء احتياجات البلد من العقول والأيدي. وقد أسس لهذا التوجه منهج الاعتدال الذي ساد في مرحلة السنوات العشر الأخيرة رؤية معتمدة للملك عبد الله بن عبد العزيز تحظى برعايته ودعمه. وأضيف إلى هذا أننا كمجتمع ضمن بعض هذه الأطر, وبغض النظر عن مواقف صانع القرار, تركنا المرأة خارج مساحة الأسئلة المواكبة للزمن, وخارج إطار الأجوبة أيضا.. وبذلك سمحنا أن تكون المرأة أول ضحايا ساحة التناقضات والازدواجية الفكرية , الجدار القصير الذي يقفز فوقه كل من يحاول استغلالها وتسخيرها لخدمة أغراضه, ولو عبر إغرائها بإتاحة الفرصة للنجومية في إطار سلبي أو خطير. والحمد لله أننا نلج الآن مرحلة ثقافية جديدة نأمل أن نعود بها لقيم الإسلام الجوهرية في صقل المواطن والمواطنة, وبناء الوعي من جديد بأن المتوقع في التصرف المجتمعي الطبيعي هو الفضيلة ,لا شهوة الرذيلة وانفلات الغريزة؛ مبتعدين بذلك عن توقع الأسوأ من التصرفات, وعن حلول تغييب المرأة. أو انتهازية إغوائها بفرص النجومية السلبية. بهذا المنطلق الواعي جاءت قرارات تمكين المرأة وفتح الأبواب لتفعيل عضويتها ومساهمتها كمواطنة في كل نشاطات ومؤسسات الوطن. واضح للمراقب اليوم أن كل الوزارات والمواقع الرسمية اليوم في موقع ضاغط التحديات، حين تجد نفسها عند مواجهة تنفيذ قرار تمكين المرأة بين مطرقة القرارات القيادية المتنورة, موجهة برغبة التطوير والتنمية الشاملة, وسندان التقاليد الذي تثبته الأعراف المجتمعية. بينما ينفخ المستفيدون المتحيزون لمصالح خاصة بهم, بقصد موجه ومؤدلج لإبقاء الأوضاع كما هي, بدعوى أن هذا ما كان في زمن السلف الصالح. ولكن السلف الصالح بدءا من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لم يمنع المرأة من الحضور والمساهمة في خدمة المجتمع بمقابل مادي أو معنوي, أو حتى لحمايتها كما في تأزم الحروب فقد حضرت لعلاج الجرحى. ولم يطالب بتغييب المرأة أو منعها من أن ترى أو تسمع وتعبر عن رأيها؛ بل نزلت سورة كاملة هي سورة « المجادلة» تدعم موقفها وحقها في النقاش المباشر. بينما لا يوجد في القرآن الكريم كله موقع واحد يذكر مصطلح «الاختلاط» الذي يحمله البعض كخط أحمر وتبريرا للمطالبة بالمزيد من التقييد والتغييب.