أوضح الدكتورسعيد أحمد عنايت الله المدرس بالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة ضمن سلسطة الدين النصيحة أن هناك وسائلُ حفظِ خاتَمِ الشرائعِ وسِلْسِلَتُها الذهبية في نقلها إذ إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - إذا أراد شيئا فأمره بين: “كُنْ” و “يكون”، فإنه - جلَّ وعلا - غير مفتقر إلى الأسباب، لكن مِنْ سُنَنِ اللهِ - عزَّ وجلَّ - الكونية أنه جعل لكل شيء سببًا، فَوِفْقَ هذه السُّنَّةِ اختار الله - عزَّ وجلَّ - لنقل هذه الشريعة مِنْ المعصوم - صلى الله عليه وسلم - خيار البرية، وأشرف عباده بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فلله دَرَّهُمْ رضي الله عنهم. وأولهم في هذه السلسلة هم: أصحاب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ، الذين نزل فيهم وهو فيهم قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: 110] ، وقال فيهم نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الله اختارني واختار لي أصحابي) وقال: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). ولقد شرَّفَ الله أصحابَ نبييه - صلى الله عليه وسلم - لِتَحَمِّلِ خاتم الشرائع، عن خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -؛ لكي يُبَلِّغُوها كما تحمَّلُوها، فهم الأمناءُ السابقون، والعدولُ الأوَّلُون في حفظ هذه الشريعة وتحمُّلها ونقلها إلى مَنْ تَبِعَهُمْ. وقد أجرى الله تبارك وتعالى السلسلة الذهبية لحمل خاتم الشرائع باتصال السند دون انقطاع، وقَيَّضَ له في كل زمانٍ ومكانٍ رجالاً عُدُولاً؛ ليحملوا هذه الرسالة الخالدة، وليُؤَدُّوا هذه الأمانة الجليلة، نصًّا ومدلولاً، ومعنىً ونظمًا ومفهومًا. وهذه السلسلة المباركة قائمةٌ منذ بعثة خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ولا تزال قائمةً، وستظل قائمة - بإذنه تعالى - إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم)، فكل التَّشريفِ والتَّبْجِيلِ والتكريمِ لهؤلاء الرجال الأفذاذ الذين اختارهم الله تعالى لحفظ نصوص الشريعة ومفاهيمها وِفْقَ ما أراد الله سبحانه وتعالى ورسوله-صلى الله عليه وسلم -، ولهؤلاء الرجال مكانةٌ وحَصَانةٌ شرعيةٌ عند ربهم، وعند المسلمين أجمعين، كما أنًَّ لهم مِنَّةٌ على البشرية كلها؛ لدورهم العظيم في خدمة خاتم الشرائع، فالأمةُ كُلُّهَا مَدِينَةٌ لهم بذلك، ومراعية بالالتزامات الشرعية وِفْقَ توجيهات الشارع التي صدرت في شأنهم. وسنذكر - بإذن الله تعالى - دور حاملي الشريعة، مع بيان تلك الالتزامات التي يجب مراعاتها، مع الإشارة إلى مخاطر عدم مراعاة ذلك بعد ذكر مآخذ الشريعة الإسلامية والالتزامات المطلوبة من الأمة فيها شرعًا. ما ينبغي معرفته لمَنْ يتحدث عن الإسلام : إنَّ مَنْ يتحدث عن الدين، أو يتكلم باسم الشريعة المحمدية عليه أنْ يعرِفَ أنه دين أَمَّةٍ قد قال الله عنها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: 110] ، أي أنه دينُ خير أمة قال الله عزَّ وجلَّ عنها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] ، أي أنه دين أمةٍ وسطًا، وخيرية الأُمَّةِ وفضلها إنما بسبب شريعتها ومنهاجها الوسطيِّ الذي لا غُلُوَّ فيه، فلا إفراط أي: لا شدة ولا ضيق، ولا تفريط، أي: لا تَحَرُّرَ فيه من قيود الشارع الحكيم. ثم إنِّها أُمَّةٌ لن تجتمع على ضلالة، ونبيهم صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن الشذوذ، وترك سبيل المؤمنين، وأوصاهم بالتمسك بما عليه سوادها الأعظم، وأنه صلى الهص عليه وسلم مُفَاخِرٌ الأمم بكثرتهم يوم القيامة. وللأمة تاريخ مجيد عَبْرَ القرون، وأنَّ هناك مصدرين أساسيين لشريعتنا هما: الكتاب والسُّنَّةُ، وفي ضوئهما تتحرك عجلة الاجتهاد. فالمهم أنَّ للأمة نظام التشريع على وجه التفصيل، وأنَّ الله قد تكفَّلَ بحفظ هذه الشريعة، كما أوضح النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهاته القولية والعملية موارد شريعة أمته، وأوصاهم بالتمسك بها. ويجبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ أصولَ الشريعة والثوابت المسلمة لا خلاف فيها، كما أنَّ معظم الفروع لا خلاف فيها، أمَّا بعض المسائل العلمية أو النظرية، وبعض المسائل الفرعية فقد وُجِدَ فيها خلافٌ مشروعٌ، وهو سِمَةُ سِعَةِ الشريعة، ودليل سماحة الإسلام، ورحمته تعالى لعباده . هذه الأمور ينبغي استحضارها لكل من يتكلم باسم الاسلام وباسم الأمة المسلمة. مصادر الشريعة الإسلامية وِفْقَ التوجيه النبوي وشروط الأخذ منها والالتزامات المطلوبة مِنْ الأُمَّةِ إزاءها: إنَّ أوضحَ ما نجدُ مِنْ التوجيه النبوي الشريف في بيان مأخذ الشريعة ما ورد في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن حاكمًا وقاضيًا وعاملاً فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً قبل توجهه إلى اليمن :(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال أقضي بكتاب الله قال : فإنْ لم تجد في كتاب الله ؟ ، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: فإنْ لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو ( لا أقصر في الإجتهاد )؛ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم صدره - وقال: الحمد لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله )؛ فَسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإجابة معاذ - رضي الله عنه - هذه، واطمأن على منهجه الذي اختاره في أخذ الأحكام الشرعية مِنْ المآخذ الثلاثة: الكتاب والسنة والاجتهاد، مع مراعاة الترتيب بينها. تأملات في حديث معاذ رضي الله عنه: أولاً : تعيين رسول - صلى الله عليه وسلم - موارد ومآخذ الشريعة المحمدية. ثانيًا : بيان الترتيب بين هذه المآخذ . ثالثًا : اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الاستفهام التقريري؛ أي: استفساره صلى الله عليه وسلم معاذًا، ثم تقريره - صلى الله عليه وسلم - إجابته - رضي الله عنه. رابعًا : عدم اختياره - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الأمر أو الخبر؛ حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر معاذًا - رضي الله عنه - قائلاً: خذ مِنْ الكتاب، فإنْ لم تجدْ فمِنْ السُّنَّةِ، فإنْ لمْ تجدْ فمِنْ الاجتهاد؛ كما لم يختر الرسول - عليه الصلاة والسلام- أسلوب الخبر قائلا: أنت تأخذ مِنْ الكتاب، ثم مِنْ السُّنَّةِ، ثم مِنْ الاجتهاد. فاستفسار النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا ثم تقريره - صلى الله عليه وسلم - له في إجابته لا شك أنه توجيه نبوي كريم لأمته إلى المنهج المُعَينِ لها في أخذ الأحكام، وبيان ذلك بأقوى أساليب البيان. الالتزامات المطلوبة مِنْ الأمة إزاء المصادر الثلاثة: لقد أوضح أهل العلم تفاصيل الالتزامات العلمية والعملية تجاه هذه المآخذ الثلاثة، الكتاب والسَّنَّةُ والاجتهاد، كما ذكروا شروط الأخذ منها؛ لأنه لا يمكن الاستفادة من هذه المآخذ دون الالتزام العلمي والعملي إزاءها. والذي يجب مِنْ الالتزامات العلمية حول هذه المآخذ حتى يُعْصَمْ مِنْ الفتن في الدين ما يأتي : أولا: القرآن الكريم ينبغي أنْ يُعْلَمَ بأنَّ نصوص الكتاب نُقِلَتْ نقلاً متواترًا، كما أنَّها محفوظةٌ في الصدور، ومكتوبة في المصاحف، مأمونةً منْ أي تحريف أو تبديل. والقرآن الكريم هو المصدر الأساسي الأول للشريعة الإسلامية، فهو كلام الله - عزَّ وجلَّ - المُعْجِزُ، ففيه ذكر جميع أنواع الأحكام على وجه الإجمال، ثم إنَّ القرآن يُفَسِّرُ بعضُه بعضًا، كما أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أنزل بيانه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على وجه التفصيل. فمفاهيم القرآن الكريم ومدلولاته التي هي مُراد الشارع، وفيها الهداية للناس فحسب دون غيرها، أما المفاهيم التي هي مِنْ إنتاج آراء الناس، أو ثمرة انحرافاتهم فلا خير فيها للعباد، وعلينا أنْ نتأمَّلَ في قوله تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) [البقرة: 26] ، وخير ما ورد في هذا الباب مِنْ التوجيه النبوي الكريم قوله - عليه الصلاة والسلام -: (مَنْ قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ). فالعبرة في هذا التوجيه أنْ يكون الأخذ مِنْ الكتاب، ومِنْ النقل مما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، أو وَرَدَ على لسان أصحابه - رضي الله عنهم -، الذين أخذوا منه - صلى الله عليه وسلم -، أو مِمَّا وصل إلينا من قِبَلِ أئمة الدِّين مِنْ سلفنا الصالح مِنْ التابعين، ومَنْ بعدهم مِنْ أهل الاجتهاد والاستنباط، الذين يُبَيِّنُونَ مفاهيم الكتاب، مُراعين ضوابط تفسير القرآن الكريم الملتزمين بأصوله. الشروط الواجب توافرها في المُفَسِّرِ: لقد اشترط العلماء شروطًا يجب توفرها في المفسر تتمثل في: أنْ يكون عالمًا باللغة العربية وأساليبها المختلفة، مع الإحاطة بما نُقِلَ عن صاحب الوحي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه – رضي الله عنهم - الذين شهدوا نزوله، فإذا نُقِلَ منهم شيء في تفسيره وبيان مجمله؛ فلا يجوز لأحد ممن جاء بعدهم أنْ يقول برأيه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ). ومع الاعتماد على النقل يجب على المفسر الإحاطة بالعلوم التي قد أعدَّها السيوطي رحمه الله بأنها خمسة عشر عِلْمًا وهي: أحدها: اللغة الثاني: النحو الثالث: التصريف الرابع: الاشتقاق الخامس: المعاني السادس: البيان السابع: البديع الثامن: علم القراءات التاسع: أصول الدين العاشر: أصول الفقه الحادي عشر: أسباب النزول الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ الثالث عشر: الفقه الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم الخامس عشر: علم الموهبة (وينبغي أنْ يُعْلَمَ بأنَّ اسم السيوطي - رحمه الله تعالى - مدرج في قائمة المججدين لدى القاديانية ). فالمهم لا يجوز لأحد أنْ يحمل شيئًا مِنْ القرآن على ما لم يحمل الثقة مِنْ أصحاب التفسير عليه؛ وإلا فسوف يكون التأويل ردًّا على صاحبه، ولا يكون تفسيرًا للقرآن، بل يعتبر إلحادًا في آيات الله عزَّ وجلَّ. وكم ضلَّ مِنْ أهل الفتن قديمًا وحديثًا بسبب عدم التزامهم بالمطلوب منهم شرعًا في باب الأخذ مِنْ كتاب الله، وقد قال الله تعالى مُحذرا هؤلاء وعن هذا الأسلوب البغيض: ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [فصلت: 40] ، فالإلحاد في آيات الله هو حملها على المفاهيم والمدلولات الخاطئة التي لمْ تنتقل عن السلف الصالح لهذه الأمة في باب تفسير القرآن الكريم. وقد نقل السيوطي - رحمه الله تعالى - ما ملخصه ما يلي: إنَّ أحسن طرق التفسير طلبه. أولاً: من القرآن فما أُجْمِلَ في مكان فُسِّرَ في موضع آخر . ثانيًا : إنْ أعياه ذلك يطلبه من السُّنَّةِ، يقول الله - عزَّ وجلَّ - : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 105] ، وفي موضع آخر (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ) [النحل: 64] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه). ثالثا : إنْ لم يجد في السنة فأقوال الصحابة - رضي الله عنهم -. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : إنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين والأئمة - رحمهم الله - إذا كان لهم في الآية تفسير، وجاء قوم بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس مِنْ مذاهب الصحابة – رضي الله عنهم – أو التابعين؛ صار مُشاركًا للمعتزلة وغيرهم مِنْ أهل البدع في مثل هذا. وفي الجملة منْ عَدَلَ عن مذاهب الصحابة - رضي الله عنهم – أو التابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك بل مُبتدعا؛ لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بَعَثَ اللهُ به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.