كثير من دول العالم المتقدم في وقتنا الحاضر بدأت مؤسساتها الإنتاجية تقتنع بأهمية التسويق ومفهومه الحديث، وكان هذا الاقتناع بأهمية التسويق حدثا تدريجيا.. بمعنى أنه جاء على مراحل.. أي لم يحدث طفرة.. بل استغرق عددا من السنوات حتى نضح تفكير مديري الشركات ورجال الأعمال وخاضوا التجارب تلو التجارب حتى أدركوا القيمة الحقيقية لمفهوم التسويق المتطور. من هنا أقول إن الفكر التسويقي قد مر على عدد من مراحل التطور ففي مرحلة التركيز على الإنتاج يكون اهتمام الشركة الأساسي هو الكم الإنتاجي دون توجيه الاهتمام الكافي للنشاط التسويقي وقد أعقب هذه المرحلة مرحلة التركيز على البيع التي تسود عند ازدياد المنافسة بين الشركات ذات الإنتاجية المشابهة مما يجبر الشركة على الاهتمام بفنون البيع والترويج لقطع الطريق على المنافسين في الاستئثار بحصص أكبر.. حتى يصل الأمر أحيانا الدخول في نفق اللائحة السعرية المظلم للمنتج وهذا بحد ذاته يأخذ جهدا كبيرا من امكانات أي شركة عند المساس بهذه اللائحة بشكل متفرد ومما يؤسف له أن هذا هو الواقع المعاش لبعض الشركات ومنها شركات الألبان. وما ينفص الشركات حاليا هو مزيد من التنسيق ومن ثم التركيز على التسويق وهذا أمر يمكن ان تبادر إليه أي شركة باتت مقتنعة أن المستهلك لمنتجاتها هو نقطة البداية لأي نشاط مستقبلي لها وأنه هو المستهدف لتقديم منتج وخدمة يرضى عنها. بمعنى أن يتم التخطيط الحقيقي للبدء في تصنيع منتجات تتوافق مع أهواء ورغبات المستهلك بشكل جدي والتعرف على رغبات المستهلك ضرورة من ضروريات إدارة التسويق الناجحة فهو له القول الفصل والأخير فيما ينتج وفيما لا ينتج في المجتمع. ثم تأتي المرحلة الأهم بعد كل هذه المراحل التي ذكرتها سابقا «مرحلة التركيز على الإنتاج ثم مرحلة التركيز على البيع ثم مرحلة التركيز على التسويق» لتأتي مرحلة المفهوم الاجتماعي للتسويق.. حيث من المفيد قيام الشركات والتي طبقت المراحل السابقة في موائمة مشاريعها الإنتاجية بين مصلحة البيئة من ناحية ومصلحة المستهلك من ناحية أخرى. إذ تقوم فلسفتها على تحقيق الصالح الاجتماعي أولا ثم تليه في الأهمية اعتبارات الربح. هذه المثالية في التوجه في سياسة بعض الشركات أمر مطلوب. وقدقامت بعض منها في تطبيق هذه المثالية لتكون أول المبادرين في المشاركة الفعلية والرائدة في مجال البيئة، ودعم الأنشطة الخيرية، والاجتماعية والتعليمية والمشاركة فيها وتبني بعض الهموم الاجتماعية. نحن نعرف أن من أهم المتطلبات الحديثة لإدارة التسويق في أي شركة منتجة للوصول إلى صنع قرارات سليمة على المدى البعيد هي: 1 فهم السلوك الإنساني المزاج الرغبة وذلك بالتعرف أكثر على المستهلك. 2 إنتاج السلعة التي تلائم المستهلك وتغريه. 3 حسن اختيار قنوات وخطوط التوزيع لإيصال المنتج بأقل جهد ونفقة في أقصر وقت ممكن. 4 إدراك نوعية المعلومات والبحث «قراءة السوق». 5 تنظيم الوظائف وتحقيق الكفاية في وظائف التسويق. ونظرا لأن معظم الشركات قد وصلت إلى مرحلة جيدة في حسن التعرف على المستهلك وكذلك في إنتاج السلعة التي تلائمه وفي حسن التركيز على قنوات البيع النشطة بأقل التكاليف وأقصر الطرق.. فإن الاهتمام الذي سأبحثه هنا هو في النقطة الخامسة تنظيم الأدوار وتحقيق الكفاية في وظائف التسويق.في هذا الجانب بالذات أحاول أن أقول إن التسويق «وظيفة كلية» تشمل كل ما عدا أعمال الإنتاج الفنية والتمويل والنقل والمتابعة وشؤون الموظفين والمحاسبة إذ تضم وظائف فرعية هامة هي التخطيط السلعي والبيع وخدمات التسويق باعتبارها وظيفة كلية تتعلق أولا وقبل كل شيء بتحقيق التناسق والانسجام بين مختلف وظائف الشركة.. الأمر الذي ينتهي بتحقيق أكبر قدر ممكن من القيمة المضافة بأقل مقدار من النفقات. لهذا فإن رجل التسويق بطبيعة أمره لا بد أن يشغل منصبا قياديا لكي يتاح له قدر من السلطة التي تساعده على تحقيق التوافق والانسجام بين كافة الأعمال التي تتم في أجهزة الشركة.. والمنصب الذي يشغله رجل التسويق قد يختلف مسماه من شركة لأخرى.. ففي الشركات التي تمارس نشاط الشراء مثلا بقصد البيع أي الشركات التجارية البحتة نجد رجل التسويق المسؤول عن ذلك كله في الشركة هو ذاته رئيس مجلس الإدارة أو العضو المنتدب وفي الشركات الصناعية قد يتولى نشاط التسويق مدير عام المصنع أما في الشركة المنتجة للمواد الغذائية الاستهلاكية قد يتولى نشاط التسويق مدير يطلق عليه مدير التسويق أو مدير المبيعات والتسويق وقد تتدرج مناصب رجال التسويق في الشركة الواحدة حيث يختص بأمور التسويق جميعا مدير عام يخضع له مديرو إدارات تسويقية مثل مدير المبيعات، مدير التسويق، مدير خدمات التسويق، مدير الإنتاج، مدير النقل والمتابعة، مدير العمليات.. وهكذا. عليه.. يتبين لنا مدى أهمية إدارة ووظائف التسويق وضرورة إتاحة المجال الواسع لشاغليها في إبراز تكوينها وأهدافها بشكل يجعل من وظيفة التسويق هي التي تصنع الخطط التسويقية، وتباشر نشاط بحوث التسويق وخدماته، وتتولى التخطيط السلعي والسعري من وجهة نظر تسويقية وليس بيعية فقط. فضلا عن اختصاصها المباشر بشؤون البيع والتوزيع والإعلان والترويج بعيدا عن مدير عام غير متخصص سوى في إصدار أوامر وتعاميم أشبه بتعاميم مدرسة ابتدائية.إن مهمة ووظيفة رجل التسويق مهما اختلف موقعه «تخطيطي أو تنفيذي» تبدأ من العميل المستهلك وتنتهي به آخر الأمر حينما يتحول إلى مشتر بالفعل.. فتبدأ تلك الوظيفة بالتعرف على رغبات المستهلك بعد أن تكون قد وضحت لها فرص البيع له وعلى أساس من التعرف على تلك الرغبات تصمم السلع التي تشبع هذه الرغبات.لذا فإن مهمة رجل التسويق تتركز على وضع الخطة التسويقية التي تشمل مزيجا من الخطط الإعلانية والترويجية والبيعية والتوزيعية، وذلك في انسجام وتناسق مع برامج الإنتاج المقررة، بعد هذا ينتقل رجل التسويق إلى النشاط التنفيذي المتكامل الذي يضم برامج النشاط الإعلاني والترويجي وعمليات البيع والتوزيع اللازمة مع تنظيم المبيعات الميدانية في مختلف المناطق وذلك عن طريق استقطاب مديري بيع مناطق حقيقيين يجمعون بين موهبة الإدارة وقوة التنفيذ للخطط التسويقية المعتمدة. قد يجد رجال التسويق التخطيطيون رجال بيع أكفاء ينفذون مبدأ البيع من أجل البيع بكل همة ونشاط وتنفيذ وتحقيق الأهداف المقررة لكن مع إهمال شديد التأثير في العلاقة الإنسانية بين مديري البيع ومندوبي البيع لتصل العلاقة بينهما إلى أدنى مستوى من تبادل الاحترام والولاء الشخصي للشركة هنا يكمن الخطر على الشركة وتسويق منتجاتها.. فتكوين وتدريب مندوب البيع الفعال يأخذ جهدا شخصيا كبيرا من مدير البيع وفي خلق الولاء والإخلاص في نمط عمله ومحبته لشركته.. ليأتي مدير بيع لا هم له سوى تحقيق أهداف وأرقام معينة كنوع من الإنجاز المؤقت أو ربما لضغوط من رجال التسويق قليلي الخبرة والذين يبحثون عن مجد شخصي لا أكثر.. ليحصدوا جميعا بعدها تداعيات سلبية خطيرة لعل من أهمها تكوين وتشكيل مندوب بيع لا يرى سوى بعين واحدة وهي الدوام دون ولاء أو حب للمنتج الذي يقوم بتوزيعه ومن ثم لا هم له سوى انتظار آخر الشهر لاستلام راتبه. عدا أن مبيعاته الارتجالية والتي جاءت أساسا من ضغط إداري عليه سيكون لها تأثير سلبي في عدم تسويق وبيع المنتج بالشكل المطلوب والمقرر له أو انسحاب تدريجي في درجة ولاء المستهلك للمنتج.. وهنا يكمن الخطر. إذا فالسلوك الإنساني والعلاقة الطيبة بين مديري البيع والمندوبين لها من الأهمية الشديدة ما يجعل العمل ذا تفاعل تصاعدي ومتنام وقوي أيضا على المنتج وتسويقه بالشكل الذي يضمن ولاء المستهلك للمنتج بشكل مطلق وليس مؤقتا.. وإن اعتمد مدير البيع على طريقة البيع الاندفاعي المبني على تحقيق رقم ما فسيكون هذا مدعاة وطريق سهل لقتل كل الجهود المبذولة والمخلصة في بيع منتج محبب للمستهلك على المدى البعيد وهذا ما لا يرغبه أقل المخلصين في شركة بذلت الأموال والجهد الكبيرين في سبيل الوصول للمستهلك عبر سنوات من العمل الشاق والمضني. مما مضى يمكن تلخيص وظيفة رجل التسويق في أنها قيادية تنسيقية إنسانية شاملة ذلك لأن رجل التسويق لا بد أن يحتل مركزا جيدا في الهيكل التنظيمي للشركة مع امتلاكه خبرة قوية في المجال التسويقي قبل توليه منصب مدير عام أو مدير مبيعات وتسويق بحيث يتيح له مركزه قدرا من السلطات التي تمكنه فعليا من قيادة رجال البيع المباشرين للعمليات البيعية مع اختيار الأفضل منهم لقيادة فرق العمل ليضمن بذلك تحقيق هدفين مهمين وهما: 1 تحقيق الأهداف المرسومة مع امتلاك صفة الولاء له وللشركة من قبل مندوبي البيع الذين هم روح العمل التوزيعي البيعي فهم رسله ومندوبوه لقنوات البيع وبالتالي فالاهتمام بهم ضرورة. 2 مراعاة السلوك الإنساني في العلاقة الشخصية بين مدير البيع ومندوبي البيع في أن تأخذ مجراها الطبيعي فهي المنظم الفعلي لتحقيق أسمى الأهداف.. أما الضغط والغلو في طلب البيع لتحقيق أرقام مؤقتة، والتأثيم على أي خطأ والقسوة في التعامل والإهانات الشخصية لشخص المندوب.. كل هذا قد يثير غضبا شديدا ومردودا عكسيا على الحقيقة المنطقية التي تقول إن احترام الشخوص والتعامل معها بشكل حضاري وعملي هي الأرض الخصبة لنمو الولاء والإخلاص والرضى والثقة.لا أريد التركيز أكثر على هذا الجانب الحيوي والهام في نمط عمل العملية البيعية بشكل عام ولكني أورد هنا أيضا، أن النجاح يتوقف في عمليات البيع على ما يتمتع به البائع أو المندوب من مواهب تجعله يكتسب صداقات العملاء ويحوز ثقتهم وتمكنه من إقناعهم بالعروض التي يقدمها إليهم ولهذا فإن البيع يكون أقرب إلى الفن منه إلى العلم. فإذا تميزت الشركة وحازت على رجال تسويق أقوياء ذوي قرارات وصلاحيات واضحة وكان المنتج قوياً وذا سمعة لدى المستهلك ورجال بيع ذوي ولاء وإخلاص ناتج عن راحة نفسية وعلاقة تقوم على الاحترام والثقة بينهم وبين مديري البيع وكان معدل البيع مرضيا وتحقيق الأهداف مضطردا دون اندفاع أو حماس لا مبرر له فإني أؤكد أن الشركة وفي خلال فترة وجيزة ستجني ثمار هذه التشكيلة الرائعة قوة وسمعة وأرباحا واستمرارا في احتلال قلوب المستهلكين.إن المتتبع لحال الشركات المنتجة للمواد الاستهلاكية الآن يجد أن عملها يسير بشكل جيد وهذا ليس مرده قوة المنتج أو مواهب وأفكاررجال التسويق أو إخلاص وولاء رجال ومندوبي البيع بل إن السبب يعود لقوة التوافق والتناغم والتناسق في كل ذلك. فلا غنى عن سبب أو نشاط دون آخر.. فالعملية التسويقية ومن ثم البيعية وقبلها الإدارية عملية متشابكة.. مترابطة وبالتالي لا بد من انسجامها واحترام كل عملية للأخرى ومن ثم عملها بشكل توحدي منظم تحت مظلة أمن وظيفي مستقر. أما إذا اختل التوازن في هذه المعادلة البديهية فالبكاد سيحق لنا أن نحصل على إنجاز مشلول قليل الحركة والديناميكية في وضع عجلة أعمال الشركة برمتها. خلاصة القول: إن رجل التسويق يقع على عاتقه مهام جسيمة فيجدر به أن يلم بالكثير من المعلومات المتنوعة التي تعينه على تحقيق الكفاية في نشاطه، فالبرامج التدريبية وحضور ورش العمل التخصصية والاطلاع الحر، ودراسة علم النفس ودراسة المحاسبة وعلمي التكاليف والإحصاء من أهم المعلومات والدراسات الأساسية التي يجب عليه الظفر بقسم كبير منها فهو يتصل بالكثير من الناس وعليه أن يفهم ومن ثم يتفهم لكي يتيسر له التفاهم مع الكل لا البعض فالدراسة في أمريكا واتقان الإنجليزية ليستا هما المعيار الحقيقي للكفاءة التي ربما يأخذ بهما البعض عند التعيين والمفاضلة في وظائف التسويق والمبيعات.وأخيراً: .. استشهد بمقولة لأحد كبار رجال الإدارة والتسويق في بلادنا الأستاذ محمد السرحان والذي يقول ما نصه «إن المواكبة للاتجاهات الإدارية العالمية تعني تأطير ثقافة جديدة تعمق التفكير التسويقي وتقلب المعادلة السائدة في العالم العربي «أنتج ثم أرسل إنتاجك للمستهلك» إلى المعادلة التي حققت للفكرة سيادتها في الدول المتقدمة وأثبتت صحتها وهي «اعرف ماذا يريد المستهلك ثم أنتج».هذا هو العمق الاستراتيجي للفكرة التسويقية التي كنت أبحث عنها. وبالله التوفيق. * مسؤول مبيعات وتسويق القصيم بريدة