الأفراد هم دائما يقومون بحركات التأريخ لحقب الزمن، وهم شهود عيان على تفاصيل أحداث عاشوها لحظة بلحظة، وإن كان رجل التاريخ يؤخذ عليه لبعض مغالاة بغية «موالاة» ، فإن رجل الأدب إن أخذ عليه فإنما يؤخذ لصدق روايته على أساس النزاهة الأدبية التي علّمته شيئا من مغامرة السيرة، وهي مؤاخذة إيجابية تسجّل للأديب أكثر مما تسجل عليه، وعموما فالأديب عادة لا يروي إلا سيرة واحدة تحت مسميات متعددة كالمذكرات أو السيرة الذاتية أو أوراق شخصية أو قصة حياة ... الخ. وهذه السيرة تمتاز على الأغلب بالمكاشفة التي لبث هذا الأديب يواريها في نصوصه الأدبية السابقة، إذن هو يقول هنا ما لم يتمكن من قوله هناك، ويشرح هنا ما لم تمكّنه التقنيات الفنية من شرحه هناك. وعلى هذا الإيضاح المبتسر يمكن لنا أن نعود إلى إبداعات هذا الأديب فنعيد قراءتها بعد قراءتنا لسيرته لنكتشف سر هذا الأديب ونتمتع بقراءة ثانية وفق مكاشفة سابقة هذه المرة. «بدايات» كتاب نفيس صدر هذه الأيام لأديب بارع متمكن من أدواته التعبيرية والتأثيرية وحاد الذكاء، لا أقول فيه متعة، بل أكبر من المتعة، وهو في تقديري من كتب السيرة النفيسة التي قرأتها في السنوات العشر الأخيرة وعلى الأخص من منطقة الجزيرة العربية . يحاول الراوي أن يسرد حقبة مهمة من عمر المملكة العربية السعودية من خلال ما يُسمى ب «تيار الوعي» أو الخطف خلفاً كما يُقال في السينما. وفي تقديري فإن هذه السيرة الثمينة التي تشبه عقد اللؤلؤ في جيد المملكة، بحاجة إلى أن تقرأ بالدرجة الأولى لطلاب المعاهد والجامعات والمراحل الشبابية المختلفة، أولئك الذين فاتهم أن يعيشوا تلك الوقائع القاسية التي عاشها أجدادهم لينعموا هم بالعيش الرغيد. إن الوقائع الحية والواضحة زمنيا، جغرافيا، بشريا تحيطهم بهذه الجذور التي يقفون عليها، وبالتالي تسهم في أن يكونوا أكثر وطنية وأكثر تمسكاً بتربتهم خاصة في واقع يكاد ينسّي الجذور ولا يذكّر إلا بمنجزات العولمة والانبهار بنمط العيش الوافد. إن هذا العمل ينوضع في هذا الاتجاه الأكثر حساسية لدى محاولة تقييمه. في المضمون يقسّم الأديب محمد القشعمي سيرته سيرة المملكة إلى 31 فصلا كل فصل يضيء جانباً من جوانب وقائع الحياة الاجتماعية في المملكة الفتية التي أسسها الملك عبد العزيز طيب اللّه ثراه وترينا هذه الفصول كيفية التدرّج في رحلة الزمن. كان الجدري والذي يمر سنويا يأخذ معه الكثير أو يفقد البقية بصرهم، إضافة لتشويههم، فيفرش للمصابين أسبال بالية وتبعد عنهم الذباب، وتمرس المرأة التمر مع الماء، تنقطه في حلوقهم، وعند الغروب يأتي من يحملهم بفرشهم إلى الغرف ليبيتوا ليلهم. من جهة أخرى فإن الأطفال يلاحقون أمهاتهم وهن يسحبن عظام الجمل «البخص» إلى البئر «القليب» لتربط بحبل طويل وتدلى إلى أن تصل الماء فتبقى من الصباح وحتى صباح اليوم التالي فيخرجها عمهم ليتم تكسيرها إلى قطع متوسطة، فتوضع بالقدر الحجري الكبير وتوقد على النار في الصباح إلى المساء فيبدأ الاحتفال بتقسيم العظام وما علق بها من عصب وأحيانا تقسّم إلى قسمين بحيث يقدّم للرجال القسم الأكثر والذي يوجد به العصب الأفضل، وما بقي للأطفال، إذ يكون قد مر على أهل القرية شهور على عدم رؤية اللحم، فهم عادة لا يرونه إلا في عيد الاضحى، أو عندما تتعرض أحد الجمال أو الغنم لمرض لا تبرأ منه مما يستدعي ذبحها وتوزيعها على البيوتات في القرية، وغالبا ما يمرض المرء ويشفى دون علاج. أما إذا جاء ضيف مهم جدا يستدعي أن تذبح له «رخله» أو «نعجة» فهذا يعدّ من المناسبات المشهودة. أما إذا حلّ ضيف طارئ فتمدّ المرأة يدها إلى شيء معلّق بالسقف، وإذ هو كرشة خروف يابسة جدا بداخلها بقايا من شحم الخروف ذي الرائحة النفاذة تسمّى «المحزرة» ذلك الشحم من بقايا إحدى مناسبات الأعياد أو الزيجات السابقة فتأخذ منه بكفها، وتغلق الكرشة وتعيدها الى مكانها، أو تأخذ من شيء آخر معلّق هو «القفر» أو القديد وهذا لا تأخذ منه إلا إذا كان الضيف من درجة أقل من أن يذبح له. * * * على هذا النحو الشيّق يتواصل الكاتب في التقاط تفاصيل الحياة بما لا يلتقطها غير نظر الأديب من عينين ثاقبتين وبقوة ملاحظة هي غاية في الدهشة والسخونة. فهذا الطفل يتعرض لجرح في أصابع قدمه وعندما يبكي تسكته أمه طالبة منه أن يبول على قدمه حتى يتوقف النزف، وهكذا فعل، ثم وضعت قليلا من الكحل فربطتها بقطعة قماش حتى شفيت بعد أيام. وفي أحد مواسم الزرع الذي صادف نهاية الحرب العالمية الثانية 1948 م وحرب فلسطين، قلّ وجود ما يؤكل من قمح وغيره، فمر صيف كامل لا يؤكل فيه سوى القرع والماء لا يضاف له سوى الملح. ويذكر كيف أنه عندما حضر الشاب لأول مرة راح الأطفال يمتصون «التول» باقي الشاي بعد إفراغه على الأرض. ثم تأتي تفاصيل التعرف على السيارة فها هو الفتى يسمع صوتا يهدر ويرتفع رويدا رويدا مما جعله يقفز من مكانه هارباً باتجاه القرية وحين وصل الى أعلى الكثيب «العرقوب» استدار ليرى هذا الشيء ، فوجده ضخماً أكبر من صندوق أمه بكثير، بل أكبر من الجمل، بل عدة جمال، وكان الرجال وقتها ينزلون من السيارة الى الأرض فجلس يرقبهم من بعيد ، فشاهده ابن عمه الكبير يذهب ليحضر شيئا من السيارة فيفتح بابها وإذ بالفتى يصرخ من بعيد: يا عبد اللّه لا تعضك!! * * * رغم كل أشكال المعاناة والحرمان المحيطة بهؤلاء فإن إيمانهم لا يتزحزح، فليست النعمة وحدها مجلبة للإيمان والعبادات ، بل المعاناة أيضا تضع اللبنات الأولى للإيمان لا يتزحزح ولسوف تنبني أول مملكة إيمان على راية: «لا إله إلا اللّه» في العصر الحديث. فهؤلاء رجال معهم عصي ويرفعون أصواتهم عندما يرون شيئا منكرا وينادون للصلاة، يعرفون محليا ب «النواب». وتنطلق قافلة الى الحج تاركة كل شيء خلفها، وتربط هوادج على ظهور بعارين مخصصة للنساء حتى لا يرين . تبدأ المسيرة آخر الليل حتى لا يستيقظ أطفال يتعلقون بجلابيب أمهاتهم، تتجه القافلة للقصيم ولبريدة، حيث يجتمع الحجاج خارج بريدة بانتظار وصول سيارات مخصصة ومهيأة للحج. بعد الاتفاق مع السائق أو المتعهد «الحملداري» يحدد موعد السفر، فيحمدون اللّه أن سخّر لهم سيارات تختصر الطريق، إذ إن اباءهم قبلهم كانوا يحجون على الجمال فيستغرف سفرهم وعودتهم أكثر من ثلاثة أشهر. وهكذا تبدأ الرحلة الشاقة خاصة إذا هطلت أمطار فهذا يعيقهم أكثر لعدم استطاعة السيارة اجتياز المناطق الرخوة لسهولة دخول العجلات بها، وفي هذه الحالة ينزل السائق جميع الركاب رجالاً ونساء وحتى متطلبات السفر من أوان ومواد غذائية لتبقى «اللوري» الشاحنة خفيفة ، فيحضر قطع الخشب «الكردة» والرافعة «العفريتة» ليرفع مقدمة السيارة ويدس تحت العجلات قطع خشب ، ثم يفرشون الطريق بقطع الأشجار، فيتولى الرجال دفعها ليساعدوها في التقدم، أما دور النساء فهو طبخ الغداء أو العشاء حتى تخرج السيارة فيقوم الرجال بحمل الأمتعة إليها مجدّدا، وعند تجهيز كل شيء يعود الرجال يتيممون ويصلّون الصلوات المفروضة عليهم قصراً وجمعاً فيقدم لهم ما تيسّر من مأكل. وتذكر والدة الفتى أنها رأت بساطاً أسود مفروشا في طريقهم من مكة الى جدة يسمى «زفت» قائلة عنه: يا زينه .. لو أن الشيوخ مادينه الى هنا اللّه يعزهم ولا يعز عليهم. * * * يذهب الفتى مع أمه الى النخل وهي تروس الماء أو تحصد العلف للغنم والبقر فتأتي غزوا أم محماس، وهي أم البدو الذين أقاموا بيت الشعر الخيمة كمسكن لهم خارج سور النخل، وكثيرا ما يأتي البدو ليقيموا هنا وهناك بعض الوقت فيرحلوا طلبا للماء والكلأ . كانت غزوا تسولف مع أمه وإذا بابنها محماس يناديها من بيت الشعر بصوت عال: «يا يمة جتني» وتجيبه الأم قائلة: «يا وليدي بوبز واترسها» فضحكت أم الفتى فاستفسر من أمه عن سبب الضحك، قالت له: أم محماس قد ألبست ابنها سروالا لأول مرة وقد أحس بوجود هواء في بطنه وخاف أن يكون من الوزن الثقيل فيسبب للسروال إما تمزيقاً أو توسيخاً فتعاقبه أمه ولهذا يأخذ رأيها. يقوم السارد بعمل متكامل متماسك منطلقاً من أرضية تجاربية عميقة في أعماق التفاصيل التي يرويها عن سيرة مجتمع برمته، الذي من خلاله تروى سيرة مملكة، يصطحب الفتى والده الى حيث المربع مسكن الشيوخ، وعندما دخل سأل والده عن «العمة» فأشار له عليها وإذا هي جالسة على كرسي كبير في مدخل المجلس وقد وضعت شالا على وجهها وهي تمسح دموعها وتبكي فتقدم لها والده معزّيا بوفاة «الملك عبدالعزيز» ثم تقدّم مصافحا قريباتها وبناتها داعيا للمتوفى بالمغفرة والرحمة. وفي اليوم التالي ذهب الفتى مع والده الى قصر الحكم بالصفاة حيث رافقهم أحد «الخويا» والذي أوصلهم الى الصالة الكبيرة التي وقف بوسطها الملك سعود لتقبّل البيعة، قدم الكثير من خارج الرياض لمبايعة الملك الجديد. وهكذا تنتهي السيرة عند العام 1378ه بزيارة الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي الجديدة الى الرياض. ونبقى بشوق بالغ الى أن يردف السارد المرحلة التي تلي 1378ه. إنه بحق عمل جاد وعميق وكنت أتمنى أن يتاح لي أن أعرض على الممثلين السعوديين الثنائي المتميزين فكرة الاشتغال على هذا الكتاب القيّم في مشروعهما التوثيفي الكبير «طاش ما طاش» .. وأن يأذن لهما المؤلف بالقيام بهذا العمل الوطني البارز الذي من شأنه أن يوصل تلك الحقبة التي هي «حجرة أساس» المجتمع السعودي المعاصر الى أوسع شريحة من المجتمعات الإسلامية والعربية في كل بقاع المعمورة، خاصة وأن الكتاب يجد موانع وصعوبات فائقة حتى يبلغ يد القارئ. وهي مهمة بالغة الأهمية، إذ إن لدى فئة من الناس نظرة مفادها أن هذا المجتمع لم يمر بمرحلة معاناة. محاولة عامة لتقييم الكتاب يعد هذا العمل من كتب السيرة التي توثق لتلك المرحلة في حياة المملكة العربية السعودية، وقد رواها الكاتب بضمير الغائب أو الماضي بلغة رشيقة تحمل الكثير من الشفافية والشاعرية مما جعلها قريبة الى القراءة، وطعّم عمله ببعض النكات والأحداث الطريفة ليجنبه الملل وكذلك ببعض المأثورات الشعبية وأبيات الشعر الشعبي. أدرك الكاتب أن مهمة المؤرخ تكمن في تاريخ الوقائع الشهيرة الكبرى في حياة المجتمعات، ولكن مهمة الأديب تكمن في تاريخ حياة البسطاء الذين لا يجدون عادة من يكتب عنهم، أو أنهم لا يأبهون لذلك كثيرا، بمعنى أنه يصنع تاريخا لأولئك الناس الذين لا تاريخ لهم وقد استطاع أن يفعل ذلك وينجح فيه بنسبة عالية الى درجة أنني الآن أشعر بأني أغلقت قابين على أناس يتنفسون ويتحركون بين السطور . إنه كتاب مليء بالجراحات والإخفاقات ولكنه كذلك مليء بالنجاحات الباهرة التي مكّنت هذا المجتمع ليكون في الصفوف الأولى واقفاً على تلك الجذور المدماة. وبالنسبة للتقسيم فقد كان تسلسلياً متدرجاً بحسب السنوات التي بلغت نحو العقدين منتهية في عام 1378ه . * بدايات فصول في السيرة الذاتية. محمد القشعمي الطبعة الأولى 2001م. توزيع دار الكنوز الأدبية بيروت.