تكاد تكون من النواقل الإشارة الى التغيير الذي طاول السياسات العربية، غداة ظهور الفضائيات العربية. فيما لا ريب فيه، ان الفضائيات العربية، ساهمت مساهمة مباشرة، في تشكيل منظور مغاير للواقع. وبالتالي في تغيير تفكير العرب وسلوكهم وطرق تلقيهم الأحداث التي تقع بين ظهرانيهم. لتبيان ذلك يكفينا عقد مقارنة بين ردود الفعل العربية إبان الانتفاضة الأولى - التي كانت فاترة بعض الشيء - وردود الفعل الآن في أثناء الانتفاضة الحالية. بين الانتفاضتين لم يتغير الكثير باستثناء وجود الفضائيات، هذه التي جعلت من يوميات الانتفاضة يوميات حميمة للمشاهدين العرب الذين غدوا بفضل الفضائيات من جهة والتعتيم الإعلامي داخل بلدانهم من جهة أخرى يعرفون ما يجري في الضفة الغربية أكثر بكثير مما يعرفون عما يجري في الشارع المقابل للشارع الذي يقطنون فيه. إذ ليس لنا أن نتخيل ان يكون تفاعل العرب خلال الانتفاضة الثانية على النحو الذي شهدناه لولا وجود الفضائيات العربية التي جعلت من الانتفاضة بالنسبة الى المشاهدين العرب واقعاً معاشاً حتى لو كان عيشه يتم من طريق الافتراض. والسؤال الذي ينبغي طرحه هل ثمة من تأثير للفضائيات العربية أم لا؟ بل في أي اتجاه أثرت هذه الفضائيات؟ وما الجديد الذي أضفته على السياسات العربية؟ المعتدلون وطاحونة الراديكاليين لعل أول ما يسترعي الانتباه، في دراسة مآل تأثير الفضائيات العربية، يتلخص في أنها صاحبة الأثر القوي في تكوين مواقف الرأي العام العربي "الجزيرة، "أبو ظبي"، "العربية"، "أم بي سي"، تعود ملكيتها المباشرة أو غير المباشرة الى الأنظمة العربية المعتدلة أو الى مساهمين مقربين جداً منها. بيد ان الرأي العام، الذي تنشئه هذه الفضائيات وترعى آراءه ومواقفه، هو في المقام الأول رأي عام معادٍ للأنظمة المعتدلة مالكة هذه الفضائيات وراعيتها، ومناصر للأنظمة الراديكالية ومواقفها، هذه التي لا يملك بعضها فضائيات والذي يملك بعضها فضائيات هي غير ناجحة ولا تحظى بنسب مهمة من المشاهدين. بالطبع ثمة أسباب عدة لاختيار الفضائيات العربية البارزة هذه الوجهة من التناول الإعلامي والتي من حصادها الى الآن اعادة تعويم الراديكاليات في العالم العربي بعدما كان بريقها قد أفل غداة الهزائم التي عادت بها على "القضايا العربية" وعجزها عن تحقيق أي من وعودها، أكان في الشق المتعلق برخاء الداخل أم في الشق المتعلق بتحرير الأرض. من بين هذه الأسباب ثمة ما يتصل بسعي مطلق مؤسسة إعلامية الى الاستمرارية والنجاح، هذا الذي لا يمكن تحقيقه من دون النجاح في كسب أكبر عدد من المشاهدين. يحتاج التلفزيون أولاً لأن يُشاهد. ولأن المشاهد في عصر التطور التكنولوجي الهائل صارت متاحة له مشاهدة ما يربو على مئة محطة تلفزيونية ولم يعد ملزماً بمحطة رسمية واحدة أو اثنتين على ما كانت عليه الحال في أزمان سابقة، فإن على المحطات الإعلامية التنافس لكسب المشاهدين، وفي سبيل ذلك تسعى المحطات التلفزيونية الى ارضاء مشاهديها المفترضين متمثلة الصورة التي يتصورونها عن المحطة التلفزيونية الجيدة. والحال فحينما يكون دافع استمالة المشاهدين هو ما يحدو بالفضائيات العربية الى انتهاج مقاربة اعلامية للأحداث تنحو منحى تعبوياً قريب الشبه بما كان عليه اعلام أنظمة الثورة العربية والتقدمية يتبادر الى الذهن على الفور سؤال آخر هو: من هم المشاهدون العرب وبم يتصفون؟ وفي تصوري ان الاجابة عن سؤال من هم المشاهدون العرب، من شأنه أن يجيب عن سؤال لماذا على المحطات الفضائية ان تنحو هذا المنحى لكي تكسب هؤلاء المشاهدين؟ "بورتريه" للمشاهدين العرب على ما بينت تجارب كثيرة ليس أولها الحرب الأخيرة على العراق، لا ينتظر المشاهدون العرب، فيما هم متسمرون أمام الشاشات، الاطلاع على ما يجري فعلاً، وهم على هذا لا ينتظرون الخبر، مطلق خبر، بقدر ما ينتظرون خبراً بذاته بمعزل عن مدى صحته أو عدمها. هكذا، وعلى رغم حملة التضليل الكبيرة التي قامت بها الفضائيات العربية قاطبة ابان حرب العراق الأخيرة، لم تلحق بأي من هذه الفضائيات خسارة تذكر في نسب المشاهدين جراء انكشاف كذب تغطيتها. بل على العكس، كانت حرب العراق فرصة لبعض الفضائيات لا سيما الجديدة منها لكسب عدد مضاعف من المشاهدين وهذا عين ما فعلته قناة "العربية" التي بدلت تعاطيها الإعلامي على نحو دراماتيكي بعيد أيام قليلة من بدء الحرب، فراحت تجاري قناة "الجزيرة" في مقارباتها المحتدمة والتعبوية للأحداث بل انها بزتها في أحيان كثيرة. وحينما انتهت الحرب في العراق وتهاوى نظام صدام وحرسه الجمهوري وبينت نهاية الحرب كذب تغطية الفضائيات العربية لحرب، لم يطرح المشاهدون العرب على هذه الفضائيات الأسئلة الكثيرة حول صدقيتها ولم ينتج من ذلك شعور الفضائيات بافتقارها الى ثقة المشاهدين فيها. فلا هي تصدت لترميم جدار الثقة بينها وبين المشاهدين ولا المشهدون تعاطوا معها على أنها فاقدة للصدقية، بل على النقيض من ذلك انبروا للدفاع عنها والتحزب لها من غير أن يطالبوها حتى بتسويغ ما قامت به أثناء الحرب. وقبلها ذهب المشاهدون العرب أنفسهم الى اعتبار تغطية تيسير علوني للحرب على نظام "طالبان" تغطية موضوعية على رغم ان جلاء "طالبان" و"القاعدة" عن معظم المدن الأفغانية جاء ليكشف عن وقائع كثيرة بينت تحزب تغطية مراسل "الجزيرة" وانحيازه. وفي المرتين بقي الاعجاب بالفضائيات العربية بمعزل عن درجة صدقها أو عدمه. ولتبيان كم ان مديح الإعلام العربي مفصول عن الصدق أو عدمه، ليس علينا سوى النظر الى ظاهرة "الجزيرة". فهذه القناة التلفزيونية حازت شهرتها من عملين هما حرب أفغانستان وحرب العراق، وفي الاثنين لم يكن في ما قدمته "الجزيرة" لمشاهديها شيء من مهمات الإعلام. هذا على الأقل ما بينته نهايات الحربين التي عاكست كل ما روجت له المحطة في أثنائهما. وان تمت الإشارة الى الصدق في معرض ابداء الاعجاب، على ما راح محللون عرب كثيرون يطنبون في مديح الإعلام العربي من على شاشاته نفسها، فإن ما تبينه تجارب كثيرة لا سيما الحرب الأخيرة يثبت ان الصدق ليس هو المعيار الذي يحدو بالمشاهدين العرب الى الاعجاب والتحزب الى محطة فضائية من المحطات. فالمديح الذي أغدق على الفضائيات العربية من المشاهدين العرب، على اختلاف جنسياتهم وشرائحهم الاجتماعية، شبيه الى حد بعيد بالاعجاب الذي حظي به وزير الإعلام العراقي ابان حكم صدام محمد سعيد الصحاف من هؤلاء المشاهدين أنفسهم. وكلاهما، الإعلام العربي والصحاف، قالا للمشاهدين العرب ما يودون سماعه لا ما يجري فعلاً. فالفضائيات العربية، شأنها شأن الصحاف، آثرت مسايرة رغبات المشاهدين على أخبارهم بالحقائق. وهذا جل ما يسعى اليه المشاهدون العرب الى انتصارات وهمية يسعون اليها سعياً وتقليباً بين المحطات الفضائية. فمتى حازوا ما يريدون من محطة استقروا عليها لا يبارحونها سوى الى أخرى تبزها وتتفوق عليها في صناعة هذه الانتصارات الوهمية. حصل هذا أيضاً مع راديو "مونت كارلو" ابان حرب العام 1973 إذ كان للأنباء والبلاغات السارة التي راحت تبثها الإذاعة عن انتصارات الجيشين المصري والسوري الأثر الكبير في كسب رضا المستمعين العرب وبالتالي كسب ثقتهم واعجابهم بها. بلورة المواقف يكاد يغيب عن بالنا حينما نتطرق الى مسعى الفضائيات العربية لاسترضاء المشاهدين ان هذه الفضائيات نفسها تؤثر وتسهم في بلورة مواقف هؤلاء المشاهدين وبالتالي في تكوين ذائقتهم. فوسائل الإعلام تملك قوة تأثير هائلة في الآراء والمواقف وأشكال السلوك، ومن الغباء بمكان النظر الى قناة "الجزيرة" أو الى أي وسيلة اعلامية أخرى على انها وسيط سلبي محايد. فكما بإمكانها أن تكون معبراً للآراء، فإنها بطريقة أو بأخرى تشكل هذه الآراء أو الجزء اليسير منها. هنا، ثمة مفارقة تطرح سؤالاً يستدعي الاجابة عنه: كيف للأنظمة العربية المعتدلة أن تنفق الأموال على فضائيات لا تفعل سوى انها تنمي وتغذي وتخصب وتكثر من تيار المعادين لها ولسياستها؟ وفي هذا تكمن المفارقة التي تمثل عليها أفضل تمثيل المسافة القصيرة التي تفصل قناة "الجزيرة" عن قاعدة السيلية في الدوحة العاصمة القطرية. فبينما تستقبل الحكومة القطرية الأميركيين وتتيح لهم انشاء قواعد عسكرية. تفرد "الجزيرة" ساعات بثها المتواصل لكارهي أميركا وللمحرضين على الدول العربية التي تربطها علاقات جيدة بالولايات المتحدة الأميركية. لوهلة قد يذهب المرء الى اعتبار تصرف الحكومة القطرية سابقة غير مفهومة. بيد ان من يدقق جيداً في تصرف الحكومات العربية حتى الراديكالية منها، من شأنه أن يخلص الى ان قطر ليست الوحيدة من بين الدول العربية التي تحمل هذا الازدواج. والعرب جميعهم طوال نصف قرن ونيف على بدء المسألة الفلسطينية لم يخوضوا مع اسرائيل سوى ثلاث حروب لم تستغرق مدة جميعها الشهر، فيما ملأت السنوات المتبقية بالحروب الكلامية. وطوال هذه المدة لم يكن ثمة فارق كبير في طريقة التعاطي حيال اسرائيل وواقعة احتلالها أراضي عربية بين الحكومات الراديكالية والحكومات المعتدلة سوى بحدة الخطاب وعلو النبرة. والحال ليس الاتيان على ذكر ما سبق سوى للقول إن قطر لم تجترح جديداً في هذا المجال بقدر ما نسجت، ومعها الحكومات العربية المعتدلة، على منوال غريمتها الحكومات الراديكالية التي تكاد راديكاليتها تختزل في الخطابة القومية فحسب تلك التي لا تجد لها ترجمة على أرض الواقع والتي لا تروم منها سوى ابتزاز حكومات عربية أخرى. فهل يكون ما تفعله الحكومات العربية المعتدلة من خلال فضائياتها رداً على هذا الابتزاز بمثله؟ اكراهات الوسيط قد يكون الجواب الآنف ينطبق جزئياً على دولة قطر و"قناة الجزيرة" أكثر منه انطباقاً على الدول راعية الفضائيات الأخرى. إذ ان التأثير الذي تحدثه هذه الفضائيات لا يمكن ارجاعه بكليته الى فعل واعٍ من القيمين عليها. فثمة الى ذلك ما يمكن أن نسميه ب"اكراهات الوسيط" هذه التي تتصل بشروط ومعايير عمل الوسيط القناة الفضائية الذي يعمل وفقاً لآليات ذاتية بمعزل - وأحياناً بالضد - من الرغبات والأهداف الواعية للقيمين على القناة الإعلامية. إذ أن الأثر الذي تحدثه فضائية من الفضائيات في الرأي العام، أعقد من أن يرد الى طرق صوغها المادة الإعلامية فحسب، مع ما لهذا العامل من تأثير كبير في ذلك. حتى انه يمكننا الجزم بأن المسألة لا تختصر في ما تذيعه الفضائيات العربية وكيف تذيعه، بل في الذي لا تذيعه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أفردت المحطات الفضائية العربية جميعها ساعات بثها المتواصل لأفغانستان في أثناء الحرب عليها، وحينما تهاوى نظام "طالبان" وانتهت الحرب راحت الفضائيات العربية تقلل شيئاً فشيئاً من اهتمامها بأفغانستان لمصلحة عودة الاهتمام بالانتفاضة الفلسطينية التي كانت الحرب الأفغانية قد خطفت الأضواء منها. ولم يعد يظهر أي خبر عن أفغانستان في القنوات الفضائية العربية الا متى كانت هناك هجمات من فلول "طالبان" على القوات الأميركية. أما التغييرات التي حدثت من قبيل عودة أكثر من مليون لاجئ أفغاني الى بلادهم وما حدث على صعيد آخر كاستعادة النساء حقهن في العمل والتعليم وغير ذلك من تغيرات كثيرة طاولت أوجه حياة الشعب الأفغاني كافة، فإن هذه الأحداث جميعها لم تحظ بشرف اعتبارها حدثاً يستأهل اذاعته على أثير الفضائيات العربية. الأمر نفسه تكرر مع العراق غداة انتهاء الحرب عند اختزال المشهد العراقي بأعمال العنف والفوضى والقلاقل واغفال التغيرات الجمة التي طاولت حياة العراقيين. ولعل في هذا ما يفسر ظهور كثيرين على المحطات الفضائية يقومون بعقد مقارنات بين وضع أفغانستان في ظل حكم "طالبان" ووضعها الآن، أو بين وضع العراقيين الآن ووضعهم في ظل نظام صدام، ويعتقدون ان نتيجة المقارنة راجحة لا محالة لمصلحة كل من النظام الطالباني في أفغانستان والنظام الصدامي في العراق. بين ما تذيعه الفضائيات العربية وما لا تذيعه، يحضر هنا السؤال عن المعيار الذي تعتمده هذه الفضائيات والتي من على هديه، تميز الأحداث بين مجموعة تستحق البث وأخرى لا تستحق ذلك. على هذا، فالحؤول دون الأثر التعبوي الذي تحدثه الفضائيات العربية في نفوس متلقيها المشاهدين العرب، ليس له أن يتم من طريق التلاعب بالمادة الإعلامية وتحويرها والتخفيف من وطأتها. فالمسألة ليست إذاً ما كان صحيحاً ان القوات الاسرائيلية هدمت 20 منزلاً في رفح، على ما أذاعت الفضائيات العربية أم أن العدد الحقيقي للمنازل المهدمة هو 15، بل في ما إذا كان صحيحاً ان ما يجري في رفح يختزل كل ما يجري في فلسطين وان ما يجري في فلسطين يختزل كل ما يجري في العالم العربي على ما يتهيأ للمواطن العربي الذي يشاهد هذه الفضائيات ويتقصى أخبار العالم العربي من خلالها. الحدث حيث العنف فمنذ اندلاع الانتفاضة الثانية راح ما يجري في فلسطين وما يتصل به يستأثر بالحيز الأكبر، ان لم يكن بكامل زمن بث الفضائيات العربية في الوقت الذي تم فيه حجب أخبار ما يجري في ال22 دولة عربية المنضوية في اطار الجامعة العربية، فلم يكن يؤتى على ذكر واحدة من هذه الدول الا متى كانت تحدث فيها تظاهرات داعمة للانتفاضة أو يجري فيها حدث جلل من قبيل حملة اعتقالات أو عملية ارهابية. ولم ينافس الانتفاضة الفلسطينية على استئثارها بالمادة الإعلامية الفضائية العربية طوال هذه الفترة ثلاث سنوات سوى دولتين اثنتين هما أفغانستانوالعراق حين أمستا مسرحاً للحرب. هذا في الوقت الذي قد لا يؤتى فيه على ذكر المغرب في نشرات أخبار الفضائيات العربية لمدة ستة أشهر أو أكثر، وحينما يؤتى على ذكره فإنما يكون ذلك بسبب حدث جلل كتفجيرات الدار البيضاء. وكذلك الحال مع لبنان الذي لا يؤتى على ذكره إلا في أوقات احتدام الوضع في جنوبلبنان. كما ان سورية هي الأخرى لا تحظى باهتمام يذكر في الفضائيات العربية سوى في حالتين اثنتين: حينما تتعرض لتهديدات اسرائيلية أو حينما تشتد الضغوط الأميركية عليها. الحال نفسها في شأن العلاقة بالغرب، فلا تظهر دولة من الدول الغربية في الفضائيات العربية الا في صورة المعتدي والمهدد والمتوعد فيما يتم اغفال الكثير من أوجه التعاون والتكامل بين العالمين العربي والغربي. ينطبق الأمر نفسه على الجاليات العربية في الغرب. فهذه الجاليات لم تهتم الفضائيات العربية بواقعها الا حينما باتت عرضة لبعض المضايقات كما حدث غداة هجمات 11 أيلول سبتمبر. ينتج من مثل هذا النحو من الإعلام الفضائي ترسيخ الفضائيات العربية في ذهن مشاهديها صورة للعالم العربي يبدو فيها ليس أكثر من لوحة عريضة من المآسي والكوارث والقتل والتفجير، وهذا عين النظر العروبي، الأصولي الإسلامي للعالم العربي. وإذ ما عرفنا ان التلفزيون بات منذ زمن بعيد، المصدر الوحيد لانتاج الواقع والتعرف اليه، كان لنا أن ندرك مقدار الأثر البالغ الذي تولده الفضائيات العربية في مشاهديها العرب. ولا تشكل الفضائيات العربية بالنسبة الى المشهد العربي نافذة على أحداث العالم الخارجي فحسب كما هي الحال مع المواطن الأميركي أو الأوروبي الذي يشاهد الCNN. فبالنسبة الى المواطن العربي تمثل الفضائيات العربية المصدر الموثوق والوحيد للأخبار في ظل الافتقار الى اعلام محلي تنحصر مهمته في حجب الخبر بدلاً من افشائه في ظل وضع كهذا، إذ تبدو الفضائيات العربية المصدر الوحيد "للمواطن العربي" لتعرفه الى واقعه. في حين ان هذه الفضائيات بحكم طبيعة عملها الإخبارية لا تأتي على الواقع إلا بوصفه أحداثاً وكوارث. في مثل هذه الحال يجيء الواقع الذي تنشئه الفضائيات العربية مطابقاً في اختزاليته المفرطة لاختزالية الخطاب القومي العروبي للواقع العربي، ولو كانت دواعي الأخير في الاختزال مخالفة لدواعي الفضائيات. فالفضائيات العربية، بحكم المعايير التي تحتكم اليها، لا تظهر فيها الدول العربية الا بوصفها فضاءات لأحداث ومواجهات. وهذه الصورة قريبة الشبه بالصورة التي يشيعها الأصوليون العروبيون والإسلاميون عن العالم العربي الذي ليس هو في الخطابة القومية العربية والأصولية الإسلامية سوى مجموعة أحداث بين انتفاضة وحرب واعتقال اصوليين وقواعد عسكرية أميركية. والحال، فالمسألة لا تختزلها طريقة صوغ الخبر كما ان حلها لا يكون بتقديم صياغة مغايرة، بقدر ما تتصل بالمعيار اياه الذي تحتكم اليه الفضائيات العربية في تمييز الأحداث بين ما يستوجب الاضاءة عليه واذاعته وما لا يستوجب ذلك. على هذا فالبديل من هذه الفضائيات العربية فضائية لا تحجب أو تحور أو تخفف من وطأة ما يجري في فلسطينوالعراق من اعمال عنف، بل تشير الى ان ثمة أموراً أخرى تجري في هذين البلدين وفي البلدان العربية الأخرى. فلا تختزل العالم العربي ببعد واحد هو العنف والمصائب والنكبات وهو ما تشيعه معظم الفضائيات العربية حينما تقصر اهتمامها على متابعة أحداث العنف وحسب من غير الاشارة والتذكير بأن ثمة أموراً أخرى تحدث قبل وبعد وفي أثناء أعمال العنف. ليس معنى هذا بالطبع ان لا أثر يذكر لطرق صوغ الخبر، ففضلاً عما سميناه ب"اكراهات الوسيط"، ثمة اختيار واعٍ للمقاربة التعبوية يمكن ان نلحظه أكثر ما نلحظه في قناة "الجزيرة"، وتحضر في هذا المجال تغطية المحطة لكارثة تحطم مكوك الفضاء الأميركي كولومبيا مثالاً فاقعاً على ذلك. إذ على رغم كون الحدث كارثة علمية في المقام الأول، تعني البشرية جمعاء، بمن فيهم الأميركيون أصحاب المكوك، فإن قناة "الجزيرة" لم تر من الحدث فحسب حساسية عروبية شائعة ومتفشية، سوى الجانب المتصل "بصراعنا مع العدو". ساعد على ذلك وجود رائد فضاء اسرائيلي على متن المكوك، جعلت منه القناة محور الحدث الى الحد الذي بات الخبر على قناة "الجزيرة" هو خبر مقتل أول رائد فضاء اسرائيلي أكثر منه خبر تحطم مكوك فضاء أميركي. وباتت تل أبيب موطن رائد الفضاء الاسرائيلي قبلة التغطية الإعلامية بدل ان تكون ولاية هيوستن التي تقع فيها وكالة الفضاء الأميركية "ناسا". كما طغى الحديث عن سيرة رائد الفضاء الاسرائيلي على سيرة المكوك وتاريخ اطلاقه، فأفشت "الجزيرة" الى مشاهديها بأن رائد الفضاء الاسرائيلي كان طياراً حربياً شارك في قصف لبنان وفي حرب 73 وفي قصف المفاعل النووي العراقي، الأمر الذي جعل المشاهدين العرب وحدهم دون سائر المشاهدين في العالم يغتبطون لوقوع كارثة كهذه لا لشيء سوى لأن الخبر قدم لهم على نحو يستجلب مثل هذا الموقف منهم.