صفعة واحدة من مفتشة البلدية في تونس وجهت إلى خد شاب فقير يبيع الخضار جعلته يُشعل نفسه حنقاً، وكان عود الكبريت الأول الذي أشعل الخارطة العربية وحناجر الجماهير المغلوبة على أمرها لتهتف من القلب (الشعب يريد إسقاط النظام) وهكذا أخذت الفضائيات العربية تنقل هذا الهتاف طوال بثها الذي لا يتوقف، وأصبح المواطن العربي ينام ويصحو على هذا الهتاف إلى أن ترسخ في أذهان الأطفال الذين لا يعون معنى هذا الهتاف بل اعتبروه مجرد (لازمة) أو أغنية لا أكثر، ولذا أخذوا يرددونه بشكل عفوي في البيت والشارع والمدرسة. وحدث أن ثلاثة أطفال في إحدى ابتدائيات مدينة درعا السورية قد رددوا هذه اللازمة التي اعتبروها أغنية ليس إلاّ. إلا أن الأستاذ (المخبر) هاتف (معلمه) في فرع الاستخبارات وبالمناسبة فإن النظام السوري يسمي المسؤول الاستخباري (معلما) تدنيساً لمعنى المعلم الحقيقي أي الأستاذ، والدليل على ذلك أنه حتى وزير خارجية ذلك النظام يُسمى المعلم وأعتقد أنه حصل على هذا اللقب إما عن جدارته الاستخبارية الشخصية، أو أنه ورثه عن أبيه أو جده الذي كان أدهى منه في (المعلمة). أقول: إن أستاذ ابتدائية درعا حينما سمع الأطفال الثلاثة يرددون تلك اللازمة سرعان ما هاتف معلمه في الفرع وقال له: سيدنا أرسل عدة عناصر للمدرسة فثمة (مؤامرة ضد الحزب والرئيس) وما أن جاءت العناصر حتى قبضوا على الأطفال الأبرياء وأخذوهم معصوبي الأعين إلى الفرع للتحقيق معهم. وحينما طال غياب الأطفال جاء آباؤهم إلى رئيس فرع الاستخبارات في درعا فصرخ بأوجههم ماذا تريدون. فقالوا نريد أولادنا فما كان منه وبكل غطرسة إلا أن قال لهم: انسوهم تماماً. فقالوا ولكنهم أولادنا كيف ننساهم. فقال بكل برود: بسيطة انجبوا غيرهم!!! فهؤلاء يتآمرون على الحزب والرئيس. وحينما بُهت الآباء من هذا الرد الغريب، أردف رئيس الفرع وبكل وقاحة وخسة واستهانة بالكرامة والرجولة: إن لم تكونوا قادرين على إنجاب غيرهم فرجالي بمقدورهم فعل ذلك بدلاً منكم (!!) انصرف آباء التلاميذ وغادروا الفرع ولكنهم قرروا أن الموت أفضل من هذه الإهانة فأخذوا يصرخون في الشوارع ويرفعون قبضاتهم في الهواء (الشعب يريد إسقاط النظام) وسرعان ما انضم إليهم مجموعة من الحانقين الذين في أفواههم ماء منذ اعتلى الأسد سدة الحكم ثم أخذ الشارع كله يردد الهتاف، وبالطبع أعلن الرئيس وحزبه الطوارئ وجاءوا بالمجنزرات والدبابات لإحباط (المؤامرة) التي (تحركها أياد أجنبية) ضد الرئيس وحزبه الميمون أو المجنون لا فرق. ولكن المؤامرة المزعومة سرعان ما امتدت إلى باقي المدن السورية ونزل (حُماة الديار) لإخماد المؤامرة التي يقوم بها إرهابيون -وهميون- بالطبع وقتلوا ما قتلوا من الشعب ثم تفاقم الاحتجاج ليعم سوريا كلها وقالوا إن المحتجين جميعهم تحركهم (مؤامرة) دولية وحينما نصح النظام من قبل بعض الحكام قالوا إن أولئك الحكام متآمرون علينا، وحينما توسلت لهم تركيا أن يكفوا عن قتل شعبهم قالوا إن تركيا متآمرة، وحينما احتجت الدول الأوروبية قالوا لا نعترف بأوروبا فهي التي تتآمر على سوريا وهكذا كلما نصحهم صديق أو جار أو حليف قالوا: إن في ذلك مؤامرة. وهكذا أصبحت أكذوبة أو فوبيا المؤامرة تتصاعد في عقل النظام السوري منذ هتاف الأطفال الثلاثة الذين اتهموهم بالمؤامرة مروراً بشعبهم الذي اتهموه كله بالمؤامرة فجارتهم تركيا التي لم تسلم من تهمة المؤامرة فالاتحاد الأوروبي الضالع في المؤامرة، فجامعة الدول العربية التي طالما كذبوا عليها واتهموها بالمؤامرة، أي أنه لم يبق إلا (المعلم) لكي يتهمه الأسد بالمؤامرة. وكذلك -أخيراً- أنا الفقير لله والذي كتبت هذه المقالة لا شك أنني ضالع في المؤامرة لأنني كتبت كل ما سلف.