كتب : عبدالحفيظ الشمري * حينما تأتي الحكايات يطل وجه الأديب عبدالكريم الجهيمان، ولحظة أن تصافحنا سيرة الماضي البعيد والقريب تتوارد على الذهن جهوده المثابرة من أجل اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني في تلك الرؤى التي عبرت إلى الماضي واندغمت في أيامه وذاكرته، حتى أصبحت عملية استرجاع مثل تلك المواقف والصور والحكايات مرهونة بقدرات الراوي المتمكن من مقولاته على نحو ما لدى الجهيمان.. ذلك الذي يمتلك ثقافة موسوعية تعمد إلى الفرز والمقارنة والاستنباط لتقديم حكايات خالصة، تفيد المجتمع، وتؤسس لحالة من التعاطي الواعي مع منجزات الماضي. رحلة الجهيمان نحو التعلم وطلب العلم: جاءت ولادة الأديب عبدالكريم الجهيمان بقرية غسلة في إقليم الوشم بمنطقة الرياض عام1332ه، كأي ولادة بسيطة لطفل يعاني الضعف وشح الموارد، زادها موت والدته في سني عمره الأولى قسوة على طفل لا يعرف من الحياة إلا الألم. فمنذ نعومة أظفاره والجهيمان لا يكل أو يمل من التأمل في الحياة من حوله، فلم يكن مثل سائر الأطفال يلهون ويلعبون، إنما هو جاد حتى في تصرفاته الطفولية، حيث اكتشف والده ميله الشديد نحو الاطلاع والقراءة رغم ندرتها، فلم يُعد مجديًا أن يعمل بالتجارة أو الزراعة، للتولد لدى والده رغبة في تعليمه إلا أنه سيبقيه معلقًا في أمور أخرى مثل التجارة والوظيفة. بزغت فكرة المعرفة وطلب العلم لدى الفتى عبدالكريم قوية، فربما ستحقق ذاته من خلال المنجز الإنساني، فكان أمامه الكتّاب والجامع ليتعلم، فما كان منه إلا أن أقبل على العلم ونهل منه بشكل جيد شكل خريطة توجهه المعرفي النابه. رحلة القراءة لدى الجهيمان بدأت بحفظ بعض سور القرآن الكريم وبعض الأحاديث الشريفة على يدي إمام مسجد قريته. بعدها قدم لمدينة الرياض برفقة والده الذي يشتغل بالتجارة، فما كان منه إلا أن تعلم مبادئ النحو، وبعض الأمور الدينية، ولم يلبث أن سار به ركب الحياة عام 1348ه، نحو مكةالمكرمة ليعمل بصحبة تاجر نجدي، إلا أنه ظل وفيًا للمعرفة والاطلاع، ليجد رغم ضيق الحياة فرصة للالتحاق بالمعهد العلمي السعودي ليتعلم بشغف، ورغبة حتى تخرج فيه عام 1351ه، لتتواصل في هذا السياق رحلة في التعلم والتعليم، فهو ينهل من معين المعرفة قارئًا متمرسًا، ومعلمًا يقوم بالتدريس على نحو ما بدأه حينما عاد من مكة في مدارس الأنجال في الخرجوالرياض. عقود من هموم الصحافة ومكابداتها: تحولت مسيرة الأديب الجهيمان نحو العمل الصحفي كتابة وممارسة مهنية، فرحلة العلم والسفر للكثير من البلاد العربية والغربية جعلته أقرب للعمل الأدبي من خلال الكتب والمؤلفات، حيث شغف فيها، ليترجم هذا الشعور بانتقاله إلى المنطقة الشرقية حوالي عام 1353ه ليتولى إصدار جريدة «أخبار الظهران»، ويصبح أو رئيس لتحريرها، فيما واصل الكتابة من خلال بعض الصحف القائمة آنذاك. جاءت طروحات الجهيمان الصحفية متسمة بالجرأة، والصراحة والمباشرة، في وقت ظل عموده الصحفي الشهير (المعتدل والمائل) هو الانطلاقة الأولى للحديث عن هموم المجتمع وتلمس احتياجاته ورغباته، وحينما توقفت صحيفة «أخبار الظهران» عن الصدور، عاد إلى الرياض ليواصل الكتابة عبر مجلة اليمامة، وما لبث أن انتقل إلى منطقة القصيم ليرأس تحرير «جريدة القصيم»، ويواصل كتابته في المجال الأدبي والاجتماعي، مستلهمًا العديد من القصص والمواقف الإنسانية المعبرة. توج الشيخ الجهيمان مسيرة العمل في الصحافة والمطبوعات بإصدار العديد من الكتب التي احتوت على العديد من المقالات والزوايا التي كان يكتبها في تلك الصحف التي أشرف عليها ورأس تحريرها مثل (دخان ولهب) و(أحاديث وأحداث) و(أين الطريق) و(آراء فرد من الشعب) و(دورة مع الشمس) و(ذكريات باريس)، إضافة إلى مخطوطات أعمال احتوت على العديد من الزوايا والمقالات التي كان يكتبها باسمه الصريح حينًا، وباسمه المستعار حينًا آخر. رحلة جمع الأمثال الشعبية وتدوينها: حينما وجد أنه قدم ما لديه في المجال الصحفي والكتابي، اتجه الجهيمان إلى حقل جديد من حقول العطاء المعرفي والأدبي تمثل في مشروعه الأهم، المتمثل في جمع الأمثال الشعبية، وتدوين الحكايات المحلية، وكذلك تدوينه للأساطير الشعبية في الجزيرة العربية. لقد عمل الأديب الجهيمان على التحقيق والتدوين للعديد من الأمثال التي كانت ترد على ألسنة الرواة، فكان يلتقطها من مجالسهم في مناطق مختلفة من أرض الجزيرة العربية، حيث ظلت الحكايات شائقة والأمثال مسلية ومنقولة بعناية وحرص، فكان الجهيمان مجيدًا للعمل في هذا المجال، حيث أصدر خمسة مجلدات جاءت بعنوان (أساطير شعبية) من عام 1387ه حتى عام 1390ه، ثم أصدر تسعة مجلدات حوت العديد من الأمثال الشعبية، وصدرت هذه الأجزاء بين عامي 1400ه - 1403ه. فالحكايات الشعبية ثروة مهمة في ثقافتنا المحلية استطاع الجهيمان من خلالها أن يتواصل مع القارئ، حيث أخرجها من أسلوب الحكايات الشفهية من شخص إلى آخر، لتأخذ شكل التدوين، فكانت طريقته في النقل شيقة، إذ نراه يستشرف حقيقة المجتمع من خلال ما يتوارثه من مخزون حكائي، فكان ينقله إلى الأجيال بكل أمانة، ودراية ليصبح القارئ أمام حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها. ولم تغب عن الأديب الجهيمان حاجة الطفل لمثل هذه القصص والحكايات الشعبية، لنراه وقد أصدر عددًا من القصص الشيقة في عدة مجلدات لاقت استحسان الذائقة المحلية، فهذا النوع من الأدب والثقافة يجد صداه لدى الناشئة حينما يُعدُّ ويكتب بشكل شائق ومناسب يراعى فيه المراحل العمرية للأجيال. الأديب الجهيمان حجة في الثقافة ومرجع مهم من مراجع التراث العربي، والسبب يعود لأنه ظل يمتلك خبرة ودراية أهلته لأن يكون في هذه المكانة المرموقة في ساحة المعرفة في بلادنا، كما أن هذه المحاور أو المحطات الثلاث في تجربته قل ما تكون موجودة بشكلها الموسوعي في سائر عطاء الأدباء والمثقفين إنما نجدها جلية ومتأصلة في تجربة أديبنا الجهيمان، فتجربته في طلب العلم وعمله في القضاء، ومن ثم عمله في الصحافة والكتابة، وكذلك تفرغه لكتابة الأمثال والأساطير الشعبية يؤكد أنه حالة نادرة الحدوث لم تتحقق إلا عند أديبنا.