لم يعتد قلمي أن يسطر أحباره لتمجيد الذوات والأشخاص ليس تعالياً أو تكبراً، بقدر ما هو زهدًا بما في أيديهم، وبعداً عن ذلك النهج الذي اعتاده بعض مرتزقة الأقلام فمجدوا من استحق التمجيد ومن لم يستحقه حتى زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا. لكن هناك أشخاصاً يجبرون المرء على التغني بهم ورفع ذكرهم، مؤمناً أن ذلك واجب تمليه عليه صنائعهم وتفرضه جميل صفاتهم، ليشعر بذلك أن في نفسه حرقة لا يطفئها إلا سرد مناقبهم واللهج بالثناء عليهم، لا شيء سوى إنزال أولئك الأفذاذ منازلهم وشكر محامدهم، فلا أقل من إسعاد المنطق بذكرهم: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال ولقد كانت الكتابة عن شخص كسمو الأمير بندر بن عبدالعزيز الذي لم ينزله الإعلام منزلته لبعده عن مناصب الدنيا الزائلة، أمراً كان يراودني منذ فترة، وكنت أطرد إلحاح الذهن بالتسويف، وأعلل النفس بالأمل لأن أسطر ما يجيش في الفؤاد تجاه هذا الشخص، حتى جاء ذلك الموقف الذي ذرفت عنده عيني وهي على الدمع عصية. فلم يكن ذلك إلا إجلالاً لهذا الرجل وإكباراً جعل من دمعي شاهداً على ما يكنه القلب له. لقد رأيت ذلك الشيخ الوقور يجلس بجانب خادم الحرمين الشريفين بعد أداء صلاة الميت على الأمير سلطان رحمه الله، رأيت في هيبته زهد الزاهدين ورأيت في تواضع فعله وقوله وهيئته تواضع المتواضعين. يجبرك سمته وسكينته على إجلاله ويخبرك وقاره عن سعة عقله ووسع أفقه. لقد فرضت بندر على من عرفوه التقدير والاحترام حتى إذا جاء ذكره لم تسمع إلا شاكراً لفعاله أو مثنياً على زهده أو معجباً بتواضعه. فلم يفتأ ذكره بين الأنام في المجالس إلا بخير، ولعمر الله لهذه الغنيمة الباقية وما سواها زائل «فما متاع الدنيا إلا قليل» حتى غداً الناس عن صنيعه شهود، ووردوا إلى فعاله قعود. وبالرغم من أني لم أحظ بلقاء بندر إلا إني أحببته لله وبالله، ولمست من أبناء هذا الوطن مثلي في ذلك الكثير، ومع أن زهده بالإعلام وأضوائه جعلت كثيراً من الناس لا تعرفه إلا باسمه، إلا أن من يمعن النظر في سير أمور الحياة يخرج بفكرة أن الزهد والتواضع هما سمة هذا الرجل. لقد عاش في هذا الكون الكثيرون الأفذاذ الذين رحلوا ولم يخلد ذكرهم ومضوا ولم يعرفوا، فما كان ذلك بصائرهم عند ربهم الذي أورثهم الدار الآخرة نظير تواضعهم لخلقه وزهدهم بالدنيا الفانية، فلم يبغوا على أحد، ولم يتعالوا عليه فكان جزاؤهم أن أورثوا دار البقاء {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، فمضى بذلك المحسن والمسيء، كل له عند ربه له موقف وجزاء، فلعمر الله كم ترك أولئك الزهاد من عظة للمتعظين تعظم إذ كان الواحد منهم ذا مال وبنين وأوتي من كل شيء ومع هذا وذاك ترك ذلك وزهد فيه، واكتفى باليسير من دار الفناء ليستعد ليوم الرحيل وليجعل حمله خفيفاً ليكون حسابه بين يدي ربه يسير، فما أعظمها من عظة لأولئك المتهافتين على هذه الدنيا المتكالبين عليها وهم لا يملكون من حطامها إلا قسمة ربهم لهم وما قدره عليهم. فليت شعري متى نفيق من سباتنا ونتوقف عن لهاثنا ونرضى بما قسم لنا ربنا، فلعمر الله إن لنا في مثل بندر لخير مثال، وفي فعاله ومقاله ما لا يكفيه المقال.