كنت أطمع أن يكون حديثي عن الراحل علي الخرجي في أول أيام عزائه لتكون مشاركة ولو قليلة مع مشاعر محبيه وفي مقدمتهم أجيال كثيرة في عمر جريدة الجزيرة والرياض التي كانتا البوابة التي خرج منها إلى المجتمع العالمي وقبل ذلك المجتمع السعودي الذي لم يكن يعرف الكاريكاتير إلا من خلال ريشة الفنان (علي) يرحمه الله، لقد أسهمت الجزيرة بموقف مشرف عام 1997م بتوجيه من رئيس مجلس الادارة في ذلك الوقت د. الشبيلي أن كرمته وهو في أعلى درجات الإبداع بعد أن نوى اعتزال مجاله بعد خمسة وثلاثين عاما قضاها بين جريدة الرياض والجزيرة. أقيم بتلك المناسبة حفلا يليق بتاريخه الإبداعي تضمن معرضاً لنخبة من أعماله ازدان بها بهو المؤسسة وحظي بتشريف من صاحب السمو الملكي سلطان بن فهد بن عبد العزيز ومشاركة أعضاء مجلس إدارة المؤسسة ومنسوبيها من إداريين ومحررين وعدد كبير من الضيوف. كانت تلك الليلة كرنفالاً يتألق جمالا وتفاعلا مع كل لوحة من لوحاته في ذلك المعرض سبق نشرها في صحيفة الجزيرة، مع ما أقيم له من حفل خطابي ألقيت فيه كلمات الإشادة والتكريم سلم بعده للمكرم درعا تذكاريا.. كما أصدرت الجزيرة له كتيبا تضمن الكثير مما قاله وقيل عنه، فقد تضمن الإصدار العديد من الكلمات، والإشادات والذكريات، لأسماء لها مكانتها وله منها الكثير من العلاقات، العملية والإنسانية منها على سبيل المثال: الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، خالد المالك، تركي السديري، محمد بن أحمد الشدي، محمد أبا حسين، محمد الوعيل، محمد الخنيفر، الفنان عبد الجبار اليحيى، الفنان عبد الرحمن السليمان، الفنان سمير الدهام. كما تضمن الإصدار نبذة عن ماهية الكاريكاتير ومعناه والكاريكاتير في الصحافة العربية مرورا بالكاريكاتير السعودي كمدرسة خاصة لها مقوماتها وقيمها التي تنبع من قيم ومبادئ الدين والمجتمع، كما تضمن الإصدار سيرة الفنان وحديث مطول عن مشواره الفني وخصوصية إبداعه ومصادر إلهامه وإشارة إلى شهادته على عصره، بما وثقه في رسوماته من مواقف وأحداث، كما تضمن الإصدار محطات في حياته، ومجموعة كبيرة من الصور والنماذج من أعماله لم تنشر في غير الإصدار. قصة ترشيحه كأول مدير لنادي الفروسية من المواقف التي نقتطفها من الكتاب الذي أصدرته الجزيرة وقت تكريمه يرحمه الله موقفاً لا ينسى في تاريخ الفنان علي الخرجي كما يقول، حينما دعي من قبل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن تركي بن عبد العزيز عارضا عليه فكرة رسم كاريكاتير يطرح فكرة إنشاء ناد للفروسية فقام الخرجي برسم رجل يمتطي عسيباً وعندما سأله أبو صالح عن ذلك أجاب.. (نركب العسيب الين يجي الحصان) وبعد نشر الكاريكاتير يقول الخرجي: دعيت من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض سابقاً ووزير الدفاع حالياً. وحول هذه الدعوة يذكر الخرجي شعوره بالرهبة وخصوصاً قبل التقائه بالأمير خوفاً من أن يكون للكاريكاتير مفهوم آخر أو تأويل سيئ.. ولكنه فوجئ بالاستقبال المعتاد من الأمير الإنسان ورجل الدولة بالابتسامة المعهودة وبشاشة المحيا مما أشعر الخرجي بالاعتزاز قائلاً: من الآن يا علي أنت المسؤول عن إنشاء هذا النادي وبالفعل وبناء على توجيهات سموه الكريمة ومؤازرته تحققت أمنية الكثير من عشاق الفروسية الأصيلة وتشكيل أول مجلس إدارة للنادي. الفنان الكبير في كلمة لسعادة رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك تضمنها الكتاب الذي اصدرته الجزيرة عند تكريمه وبعنوان (الفنان الكبير) قال فيها.. ذات يوم، من أيام خريف عام 1385ه - أو- صيفه - لا أتذكر- أطل رائد الرسومات الكريكاتيرية في بلادنا الفنان الكبير: الأستاذ علي الخرجي على قرائه، وقد تزامنت تلك الإطلالة اليومية خلال جريدة الرياض مع صدورها جريدة يومية، ومع بدء تطبيق نظام المؤسسات الصحفية بعد صدورها. كان هذا النوع من الخدمة الصحفية جديدا على القراء، ولا بد من الاعتراف بريادة الفنان الخرجي وجريدة الرياض في اقتحام هذا المجال وتوظيفه التوظيف الحسن، الذي ما زال يتحدثون عنه إلى اليوم. أجل، أكثر من ثلاثين عاما مضت وانقضت على بداية العلاقة الحميمة بين قراء الصحف السعودية ورسومات الكاريكاتير فيها، وما زالت الذاكرة تحتفظ بأجمل الصور والتعليقات والمعالجات الرائعة لمشاكل المجتمع وهموم العرب، بريشة فنان رائع، اسمه علي الخرجي، فقد كان وحيدا في الساحة لا ينافسه أحد، وما كان ينشر لغيره على استحياء إنما يصنف نتاجهم في قائمة المحاولات التي لم يكتب لها النجاح إلا للقليل منها، بعد أن كان هذا الفنان الموهوب قد تألق سنوات طويلة سابقة لذلك. كان الخرجي ينافس نفسه بنفسه، لخلو الساحة من منافسين حقيقيين، فما يبدعه اليوم إنما ينافس به ما كان تألق به أمس، وينافسهما بما سينشر له غدا، وهكذا كان، إنه - باختصار-، صحيفة لوحة، أسر عقول القراء، ودخل قلوبهم بتأشيرة رسوماته التي كانت تعبر عن وجدان أمته همومها، فإذا به - برسوماته - في كثير من الأحيان صوت هذه الأمة ولسان حالها والناطق باسمها. لقد تميز الخرجي ببساطة رسوماته وانسجام ملامح شخصياتها مع تعليقاته التي عادة ما تتسم بالسخرية، فضلاً عن انتقائه لكلماته من أفواه الناس انتقاء جيدا للتعبير عن فكرة، أو عند الحديث عن موقف أو في حالة إبداء وجهة نظر، وذلك في عبارات قليلة ومختصرة وساخرة، يخاطب بها عقول الناس فتفهمها كل شرائح المجتمع، إلى الحد الذي كانت فيه جريدة الرياض تقرأ - بدءا من رسومات علي الخرجي وينتهي القارئ من قراءتها انتهاء بهذه الرسومات، إنه فنان لا يكرر نفسه، ومن الخطأ أن يتوقع المرء ما سيقدمه لقرائه في عدد الغد أو الذي يليه من جريدة الرياض لأن الجديد عنده مستمر ومتواصل، فقد كان في حالة تنافس جد شديد مع نفسه بين رسوماته، وكان همه الكبير أن تستمر علاقته مع قرائه كما هي - وأقوى - وهذا يتحقق - فقط - باحترام هذه المهنة والإخلاص لها، وهو ما سعى إليه هذا الفنان نجح فيه سنوات طويلة مع جريدة الرياض ثم مع شقيقتها جريدة الجزيرة. أكتب ما أكتب من مقدمة من القلب لما سيأتي عن الفنان علي الخرجي استجابة لطلب مؤسسة الجزيرة بمناسبة تكريمه والاحتفاء به، مشاركة، بين المؤسسة وجمعية الثقافة الفنون، نظير ما قدمه للصحافة السعودية من جهد خلاق وإبداع لا يجارى فيه، فقد كان رائجا في الرسم الكريكاتوري، ومدرسة مميزة في هذا المجال، ولا بد لمن زامله - مثلي - أن يكون عنده ما يقوله عن هذا الفنان المبدع، وليكون ممكنا الحديث عن كل ما عندي، إذ إن هذا يأخذ من صفحات هذا الكتاب حيزا كبيرا عما هو محدد لي، ولهذا فسأقصر حديثي على جانب قصير من قصة الانتقال المثير لعلي الخرجي من جريدة الرياض إلى جريدة الجزيرة في تسجيل أمين وصادق. كان علي الخرجي ظاهرة في فن الكريكاتير على مستوى صحافة المملكة، وكانت المنافسة على أشدها بين الجزيرة والرياض، وكان التميز للرياض على الجزيرة بالأقدمية في الصدور يوميا ثم وبوجود زينتها ومبدعها علي الخرجي، ولم يثننا هذا عن بلوغ ما نسعى إليه، إذ ما كادت تمر فترة غير طويلة على صدور الجزيرة يومية، حتى أطل على قراء الجزيرة فنان موهوب ومجدد ومنافس في فن الكريكاتير هو الأستاذ محمد الخنيفر الذي استخدم ببراعته الفائقة شخصية (سلطانة) في تقديم الرسومات وأكثرها إثارة، وقام بدور مكمل ومنافس لأستاذه علي الخرجي، غير أن النجاحات الكبيرة والمميزة للفنان الثاني على مستوى المملكة في هذا النوع من الرسومات حال - مع الأسف الشديد - بينها وبين استمرارها كثرة سفر صاحبها ثم إقامته الدائمة خارج المملكة وهو ما أبقى الرياض، فغياب الخنيفر، وتوقف نشاطه، حيده بين الصحف السعودية في معالجة مشاكل المجتمع بريشة فنانها المبدع علي الخرجي، ومن هنا، ولهذه الأسباب بدأنا، بدأنا في الجزيرة ننسج خيوط قصة الانتقال المثير لعلي الخرجي من جريدة الرياض إلى جريدة الجزيرة، بعد أن تأكد لنا بأن علي الخرجي بوعيه وسموه وحسه الوطني، ينظر إلى الصحيفتين على أنهما عيناه في رأسه، فالجزيرة والرياض صحافة وطنه، والوطن للخرجي كما هو لنا جميعاً، هو الحبيب الأول. بدأت الاتصالات بيني وبينه مباشرة ثم أشركت فيما بعد من أثق فيه للمشاركة معي في إقناعه وإنهاء المفاوضات معه، تدخل عبد الله السديري رئيس مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة السابق في محاولة المفاوضات لإنهاء الموضوع على النحو الذي يريده، ثم شارك في وقت لاحق مدير عام المؤسسة الأستاذ صالح العجروش فآخرون وآخرون، وأفضى بنا الحوار إلى قناعة تامة منه وترحيب كبير منا بانتقاله إلى الجزيرة، ثم أعلنا هذا الحدث - عن هذه المفاجأة - إلى قرائنا، واعتقدنا أن كل شيء قد انتهى وفقاً لما نريد وعلى ما نحب، لكن كان للزملاء في جريدة الرياض كلام آخر، كما سأوضحه لكم فيما بعد، وللتاريخ فقد كان الخرجي إنسانا ضعيفا في موقف كهذا كغيره من الناس، فكيف به وهو الفنان ذو الحس المرهف والمشاعر الرقيقة، إذ ما كاد يعطي موافقته على أن يحط رحاله وريشته وعقله وقلبه في جريدة الجزيرة، حتى رأيناه على غير ما عهدناه بعيون باكية تدمع لفراق عشقه الأول وحبه الكبير الرياض. سافرت إلى خارج المملكة، بعد اطمئناني على أن إنجازاً كبيراً قد حققناه للجزيرة، وأن الكلمة الأخيرة والنهائية في الموضوع قد حسمت انتقاله إلى الجزيرة، وأنه ليس أمام الزملاء في الشقيقة الرياض إلا التسليم والقبول بالأمر الواقع، غير أن ما حدث لاحقا كان شيئا آخر، فقد رمت مؤسسة اليمامة الصحفية التي تصدر عنها جريدة الرياض بثقلها للحيلولة دون انتقاله إلى الجزيرة، واستغلت الإنسان في شخصية علي الخرجي للتأثير على قراره وإقناعه بالعدول عنه، وهو ما نجحت فيه، ومثلما دمعت عيناه وهو يعطي قرار موافقته للعمل بالجزيرة، فقد بلغ به تأثره مرحلة أشد وهو يبلغني بتراجعه عن كلمة شرف أعطاها للرجال الذين أحبهم وأحبوه، معتذرا وآسفا ومؤكدا بأنه الآن في موقف من لا يستطيع أن يتخذ قرارا يخصه، وإن الجزيرة كما الرياض هي حبه وعشقه ولكن (ما كل ما يتمنى المرء يدركه) قال ذلك أو ما في معناه..! ومضت مدة فأخرى، شهور وشهور، ثم أيام معدودات وعيناي على رسومات علي الخرجي، ومحاولاتي لم تتوقف لضمه إلى جريدة الجزيرة، كنت أدرك أن علي الخرجي يحتاج إلى من يساعده في اتخاذ القرار الصعب، فقد ارتبط وجدانيا مع جريدة الرياض، مع قرائها والمسؤولين فيها لسنوات طويلة، وأن تغيير الموقع وتغيير الرجال وتغيير القراء أمر لا يقدم عليه الرجال الأشداء، وعلي الخرجي ليس من هؤلاء فهو فنان مرهف الحس مثله مثل أي فنان في العالم، إذا ما ارتبط عاطفياً بأي شيء فلا مال ولا صداقات ولا محاولات الإقناع المستمرة قادرة على تغيير مساره. ومع هذا نجحنا أخيراً في نقله من الرياض إلى الجزيرة، ليبدأ مع الجزيرة مرحلة أخرى وجديدة من حياته الصحفية والتي امتدت لسنوات طويلة ثم وحين تركت الجزيرة اقتفى أثري وودعها وداع العاشق لمحبوبته وهو يردد كما جاء في تصريح نشر له في صحيفة المسائية.. الله يا (أبو بشار) لم تدم عشرتنا ويا ليتها دامت قليلاً لأن تلك اللحظات التي بدأت العمل فيها معك في جريدة الجزيرة كالفرحة المبتورة !!!. هناك تفاصيل صغيرة في موضوع انتقال علي الخرجي، قد لا تهم القراء، ولكن من المهم أن أؤكد بأن موضوع الماديات لم يكن أساسياً في مفاوضاتنا معه، غير أن (الجزيرة) تعودت أن تكافئ المميزين في أسرتها الصحفية، ولهذا فقد بدأ (الخرجي) العمل معنا بمرتب يزيد عما كان يتقاضاه رئيس التحرير آنذاك بأكثر من الضعف، وبمثل هذه المبادرات - وهي كثيرة - كانت الجزيرة وما زالت هي الحدث والحديث.