في حياتي الممتدة على مدى ستة عقود شهدت وعاصرت وقرأت عن فقدان رجال عظماء، وكذلك نساء عظيمات، وفي مقدمة النساء والدتي رحمها الله. وكان لفقدان من عاصرتهم أو شهدت زمنهم أثر كبير في النفس، وكنت في هذه المرحلة العمرية أتصور أن العالم سيتغير بفقدانهم وأن عجلة الحياة ربما تتوقف بوفاتهم. نعم، لقد ترك العديد من أولئك الرجال والنساء بصمة في تاريخ أوطانهم، واحتلوا صفحات في تاريخ الإنسانية بإنجازاتهم، ولا يمكن أن تزول ذكراهم من ذاكرة أممهم وشعوبهم. ولم أكن في سن يدرك ويعي يوم أن كنت أرى أمي تبكي حين بلغنا في قريتنا النائية خبر وفاة الملك عبدالعزيز، لكن أدركت جيدا فيما بعد سر بكاء أمي على رجل أنجز أكبر وحدة تاريخية عرفتها بلادنا، وقد كنت بسبب هذا الإنجاز أتحرك فيما بعد بحرية كاملة في قارة وحدها عبدالعزيز دون قيود أو تمييز أو شعور بحالة غربة. إن هذا الرجل الذي وحّد أمة وأنشأ دولة لا يمكن أن يموت بل سيظل حيا في نفوس وقلوب أبناء هذا الوطن على مدى التاريخ وتعاقب الأجيال. في صبيحة يوم وفاة الأمير سلطان وأنا خارج المملكة هاتفتني ابنتي على رقم غرفة إقامتي؛ لأن هاتفي الجوال توقف عن الاستقبال لأسباب فنية تتعلق بشبكة الاتصال، وأخبرتني بالخبر المفجع وقالت: إن هاتف منزلنا في الرياض لم يتوقف من الاتصالات يسألون عنك للتعليق على هذا الخبر الفجيعة بعد، تعذر وصولهم إليك عن طريق هاتفك الجوال المغلق. أذهلني الخبر وفتحت التلفاز ووجدت كل المحطات وبلغات مختلفة تتحدث عن الخبر المفجع، وتعرض صورا عن حياة الأمير ومقاطع من أحاديثه، لم أكن أتصور أن يغيب عن عالمنا رجل بحجم سلطان، رجل له في كل موطئ قدم من مساحة جغرافية بلاده أثر، وله في قلب كل أسرة مكانة، وله في كل مكان تاريخ سيظل يحمل اسمه. إذا كان والده العظيم قد وحد هذه البلاد القارة قبل واحد وثمانين عاما فإن سلطان الذي لم يكن في سن تمكنه من المشاركة في مرحلة التأسيس، قد أسهم بشكل رائع ومتميز ومتفرد في تقوية وتمتين وحدتنا الوطنية بما قام به من أعمال لوطنه ومواطنيه، إلا أن هذه الأعمال قد أنجزت من خلال توليه مسئولية مؤسسات أو وزارات، أو من خلال ما كان يقوم به من أعمال على نفقته الخاصة. بعد تجاوز لحظة الذهول من تلقي خبر وفاته - رحمه الله - وقفت مع النفس أستعرض شريطاً طويلا من أعمال هذا الرجل ومواقفه وإنجازاته. وقفت محتارا أمام مسيرة وأعمال هذا الرجل الذي لا يكاد يمر يوم أو ربما ساعة إلا وله إنجاز، وهذه قدرة غير عادية على حب الإنجاز لازمته منذ أن تولى المسئولية مبكرا، فلقد كان تعيينه أميرا للرياض من قبل والده العظيم، وعمره لم يتجاوز العشرين، دليلا على ثقة الوالد بولده خاصة أن تولي منصب أمير الرياض يعني المسئولية الثقيلة، إنها العاصمة يؤمها كل أبناء الوطن من البادية والحاضرة والدبلوماسيين والسياسيين والملوك ورؤساء الدول، فلا بد لمن يتولى هذا المنصب لمدينة هذه مواصفاتها أن يكون مؤهلا فطريا ومعدا سياسيا وعلى دراية بمعرفة القبائل ورؤسائهم وزعماء المناطق ورؤساء المحاربين، وأن يكون ذا كياسة عالية في التعامل مع سكان مدينة يسكنها معظم الأمراء وشيوخ وطلبة العلم ورجال الدولة، لقد وجد القائد المؤسس العظيم هذه المواصفات جميعها متوافرة في ابنه النابه، الذي ازداد من مباشرة عمله في هذا المنصب الهام معرفة بأحوال الناس بأحوال القبائل، كما تعمق تواصله اليومي مع زوار المدينة من كل أنحاء المملكة. هذا سر التأسيس الأولي لبناء شخصية الأمير سلطان المنفتحة على كل أبناء وطنه، والتي نجدها ملازمة له طوال حياته السياسية. لن أتحدث عن أول تشكيل حكومي حصل فيه الأمير سلطان على حقيبة وزارة الزراعة حيث كان هم القيادة توفير مصادر الغذاء لهذا الشعب الذي افتقر وقتها إلى الكثير قبل عائدات البترول التي كانت في بداياتها متواضعة. ثم حصوله في التشكيل الحكومي الثاني على حقيبة وزارة المواصلات والاتصالات، حيث أدركت القيادة أن هذه الشخصية مؤهلة للعمل بجد في ما يساعد على ربط أنحاء المملكة في جغرافية قارة من خلال وسائل الاتصالات. ولقد تمكن من بدء وضع أول إستراتيجية لبناء شبكة من الطرق البرية والجوية والسلكية واللاسلكية، ظلت الحكومة تسير على دَربها وتسهر على تنفيذها إلى يومنا هذا. وفي أول تشكيل حكومي في عهد الملك فيصل- يرحمه الله- أوكل حقيبة الدفاع إلى رجل يعرف قدراته العالية وإمكانياته اللامحدودة، ومعرفته الجيدة لخارطة بلاده، ودرايته الفائقة بمعرفة السكان من الحاضرة والبادية في كل أنحاء المملكة حيث كان يتشكل جسم قواتنا المسلحة. ولعل القوات المسلحة هي أهم مصهر انصهر فيه كل أبناء الوطن، حيث جسدت هذه المؤسسة العظيمة لحمة وطنية رائعة غايتها ورسالتها حفظ الوطن وسلام ووحدة ترابه. من هنا لعب الأمير النبيل والوزير المتميز والمسئول الوطني المخلص الدور الرائع في بناء قوة مسلحة ضاربة تحفظ وحدة الوطن وترد عنه محاولات كل طامع. لقد كان لهذه المؤسسة الوطنية العظيمة بقيادة الأمير سلطان الدور الأكبر في بناء الإنسان على أسس متينة قوامها العلم والمعرفة والوطنية والانضباط، كما كان لهذه المؤسسة الأثر الأكبر في التنمية الشاملة التي عمت كل مناطق المملكة، فلقد تحولت المعسكرات التي كان معظمها في خيام إلى مدن تضاهي أكبر مدن العالم، وتحول الجندي من سكن الخيمة أو المعسكر المتواضع إلى مساكن حديثة تحيط بها الحدائق الغناء وتتوافر فيها المدارس الراقية والمستشفيات المتميزة ومراكز الترفيه والتثقيف والنوادي، والنوادي الصحية، وربطت هذه المدن بطرق حديثة لم تكن موجودة قبل أن يتولى الراحل العظيم الاضطلاع بمهمة هذه المؤسسة. ماذا كان وضع خميس مشيط وما يحيط بها قبل عام 1962م ومثلها نجران وشرورة وحفر الباطن وتبوك وجازان والجبيل والظهران وغيرها من المناطق قبل أن تعمرها قواتنا المسلحة بفضل من الله وهمة القائد العظيم الأمير سلطان - رحمه الله - فلم يكن يمر عام إلا ويقوم بأكثر من زيارة إلى هذه المناطق يتفقد أحوالها ويشرف على مشاريعها ويأمر من ماله الخاص لتنفيذ مالا تقوم خزينة الدولة بتنفيذه من مشاريع، ونحن أبناء المناطق الطرفية نعرف هذا جيدا، حيث كنا نفرح لزيارته؛ لأنه لا يأتي إلا ويأتي بالخير معه، والناس لا يحبون إلا من يهتم بشؤونهم ويشاطرهم همومهم ويضحي بماله وجاهه من أجلهم. كان - رحمه الله - يمثل نافذة الرجاء لكل من تقطعت به السبل وقست عليه الحياة وأغلقت في وجهه الطرق. لقد أمر بفتح مستشفيات القوات المسلحة لكل المواطنين حينما لم تتوافر في مناطقهم مراكز ومستشفيات، وأمر بفتح مدارس الجيش لكل أبناء المناطق المحيطة بتلك المدن حيث بنيت مدارس الجيش على أسس ولها مناخ متميز يساعد على التعرف على الحياة بكل أبعادها، كما أمر قادة المناطق بفتح نوادي الضباط وصف الضباط للمواطنين بكل ما يحتاجونه في إقامة مناسباتهم والاحتفالات بالأيام الوطنية أو الثقافية والفكرية، ولي مع قيادة المنطقة الجنوبية أكثر من تجربة حينما أقمت أول احتفال بتدشين المرحلتين الأولى والثانية من إنشاء مركز آل زلفة الثقافي والحضاري في قرية المراغة، وكان ينقصنا بعض التجهيزات التي لا تتوافر في المحافظة فلجأت إلى قيادة المنطقة فأمدوني بكل ما أحتاجه وقالوا: ما نقوم به هو تنفيذ لتعليمات وأوامر سمو قائدنا الأمير سلطان حيث يقول: مدوا يد المساعدة لكل مواطن. لأجل هذا بكىكل الوطن وكل المواطنين سمو الأمير سلطان وعم الحزن كل بيت، وكل أسرة، وكل فرد، وكل منطقة، وكل مدينة، وكل قرية، وكل هجرة، فله في كل مكان أثر جميل يذكر به، ومعلم خير يحمل اسمه، والمجهول من أعماله الخيرية أكثر بكثير من المعلوم منها. لن أنسى ولن تنسى قريتي ومحافظتي ما أمدنا به من عون في إنشاء مركز المراغة الثقافي والحضاري، الذي أصبح مركز إشعاع للمعرفة في هذه المحافظة التي يزيد عدد سكانها عن مائة وثلاثين ألف مواطن ليس بها مكتبة عامة ولا مركز ثقافي، فكان - رحمه الله - سريع الاستجابة لمد يد العون لهذا المركز كما تبرع - رحمه الله - بإنشاء العديد من المراكز. الحضارية في معظم المدن السعودية حيث كان - يرحمه الله - يؤمن بأن الوعيين الثقافي والحضاري هما عنوان الأمم المتقدمة. كان من هذا المنطلق مشجعا للعلم ونشر المعرفة من خلال إنشاء المراكز العلمية في الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة، إذ لا تخلو جامعة سعودية من مركز بحوث متخصص يحمل اسم سلطان، فالناس تفنى ولكن لا تفنى أعمالهم. لا تفي المقالات ولا الكتب ولا عقد الندوات سلطان حقه وتعداد مناقبه، ولكن هذا لا يعني ألا نقيم ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاش عن مناقب الأمير سلطان وجهوده التي بذلها طوال حياته في خدمة هذا الوطن، وهذا أقل ما نقدمه في تخليد ذكرى هذا الرجل العظيم. رحم الله الأمير سلطان رحمة واسعة، وأعاننا جميعا على فراقه، وسيبقى دائما في قلوبنا.