منذ أن انتهت الحرب المذهبية المسيحية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت ودخلت أوروبا في عصر النهضة وبدأت تتمدد في دول العالم استعماراً وانتداباً لتأمين المواد الأولية لصناعتها الوليدة، وحماية ممرات سفنها التجارية ذهاباً وإياباً، وهي تحاول أن تثير الفتنة المذهبية والدينية في مستعمراتها والدول المطلة على ممرات سفنها مستفيدة من التجربة الأوروبية في العصور الوسطى لتضمن لنفسها السيادة على هذه الدول التي تأمل أن تتنازع شعوبها طائفياً أو مذهبياً. نجحت تلك المحاولات في استقطاب الأقليات المسيحية في المشرق العربي، ولكي أكون أكثر دقة المذهب الكاثوليكي ممثلاً بالموارنة في لبنان، وأثارت الفتن بينها وبين المسلمين، لكنها فشلت في إثارة الفتن بين المسلمين أنفسهم، حتى ظهر على الجانب الشرقي للخليج العربي جمهورية إيران الإسلامية في عام 1979م بزعامة «آية الله» الخميني الذي أسس دولة شيعية في محيط سني لأول مرة في التاريخ الإسلامي. عرفت حينها أوروبا أن الحرب المذهبية التي عانت منها على مدى قرون وكانت سبباً لتخلفها قروناً عديدة، قد نضجت وأصبحت جاهزة للقطف وهي مبشرة بحرب مذهبية يتصارع فيها المسلمون فيما بينهم على الرغم من أنهم جميعاً يقرؤون القرآن ويتدبرون آياته وقد نهاهم عن التشرذم والتفرق والفتن ما ظهر منها و ما بطن. كثير من المراقبين مثلي للأحداث كانوا يتحاشون مناقشة مثل هذا الصراع الإسلامي تجنباً لما قد يذكي نار الفتنة الطائفية منذ أن بدأت جمهورية إيران الإسلامية في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى تاريخه بتصدير برنامجها الطائفي إلى كل مكان في العالم تتواجد فيه أقلية تتحد معها في المرجعية المذهبية وتقبل بالانضواء تحت لوائها. اصطفاف العرب خلال الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والشيوعي مع هذا وذاك، أحدث شرخاً في وحدتهم السياسية، لكنهم اليوم وخاصة بعد دخول تركيا ذات الغالبية السنية على الخط، أُقحموا في اصطفاف مذهبي وكأنه مكتوب عليهم ألا يستقلوا برأي خاص بهم تصونه وحدتهم القومية. المسيحيون العرب اكتشفوا هذا الاصطفاف العربي المذهبي، وبعد أن كان بطريرك الموارنة في لبنان مار نصر الله صفير مصطفاً مع المسلمين السنة في لبنان، جاء من بعده البطريرك الحالي «الراعي» ليعدّل عن الموقف السابق ويعلن من باريس أن مسيحيي الشرق أقلية في وسط إسلامي سني كبير، وأن مصلحتهم العليا تقتضي اصطفافهم مع الأقليّات العربية الأخرى. ما يدعو للقلق هو أن تنتقل عدوى هذا الاصطفاف المذهبي من الحكومات إلى الشعوب، وحينذاك تكون الفتنة ويصبح العرب عربانا، ويحل الولاء للشيطان بدلاً عن الولاء للأوطان. كل ما أخشاه أن يُلدغ العرب من الإيرانيين والأتراك كما لُدِغوا عندما ناصروا الأوربيين في حربهم ضد الدولة العثمانية، وكوفئوا بالاستعمار والانتداب والتقسيم، وكما لُدغوا عندما اصطف بعضهم مع المحور الشيوعي والآخر مع المحور الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية فزاد هذا التمحور من فُرقَتِهم وتخلفهم. الأمر يتطلب تدخل حكماء هذه الأمة العربية لوأد الفتنة الطائفية بين العرب وإجهاض أماني أعداء الأمة العربية وكشف حقيقة هذا التداعي على «القصعة» العربية.