معاصرة التاريخ ومعايشته من أفضل وسائل استنطاقه واستحضاره، والإفادة من تجاربه المختلفة، قوة وضعفاً، وصعوداً وهبوطاً وهزيمة ونصراً، وهي إلى جانب ذلك من أجمل وسائل المتعة الروحية، وأفضل أساليب الموعظة والذكرى، والعبرة التي تربي النفس البشرية، وتهذبها، وتخفف من حدة غرورها وغفلتها. وجّه إليَّ الأخ الكريم الشيخ عبد العزيز بن حنش الزهراني دعوته الكريمة لإلقاء أول محاضرة في أول جلسات ديوانيته الفكرية الثقافية التي أزمع إقامتها «شهرياً» في مكةالمكرمة حيث إقامته الدائمة، وفي مسقط رأسه قرية الغمَّد في محافظة المندق - في الإجازة الصيفية - حيث يجتمع هناك «السَّفَرَيَّة» من رجال المنطقة الذين يعيشون خارجها طيلة العام بسبب وظائفهم وأعمالهم. كانت سعادتي بهذه الدعوة كبيرة لأن أبا عبد الله رجل ذو فضل ومكانة، وحرصٍ على تقديم ما ينفع أمته ووطنه، ولأنه صديقٌ قديم عرفته في أول زيارة لي لقريته الغمَّد حينما كنت طالباً في كلية اللغة العربية ومعي شقيقي الأخ «طاهر العشماوي»، وكانت زيارة متميزة لأسباب ثلاثة: أوَّلها: أنها كانت صلة لذوي رحمٍ لنا كانوا في قرية النَّصْباء التي هي الآن مدينة كبيرة من مدن محافظة المندق، وهم الجدُّ «مبارك الزهراني» وأسرته الكريمة - رحمه الله ورحم من مات من أهله - وقد تعوَّدنا أن نطلق عليه كلمة «الجدِّ» وعلى زوجته الكريمة «مستورة» الجدَّة لأنهما كانا لنا كذلك عطفاً وحباً وتقديراً، فقد عرفنا هذه الأسرة «الأزدية» المباركة منذ أن عرفنا هذه الحياة، لعلاقتها بأسرتنا في مكةالمكرمة حيث تجاورت الأسرتان سنوات طوالاً، وكان الشيخ «مبارك» بوالدي حفيَّاً، وله مقدراً، ولحلْقته العلمية في المسجد الحرام ملازماً، مع ما يجمع الأسرتين من مصاهرة قديمة، ورحم متواصل. وثاني الأسباب: أن تلك الزيارة القديمة، قد عرَّفتنا - ونحن في مَيْعة الصِّبا - على نمط من الحياة الاجتماعية في زهران يتشابه مع نمط حياتنا الاجتماعية في قريتنا الغامدية في جوانب، ويختلف عنها في جوانب أخرى، ولو لم يكن إلا حضورنا لحفل زواج أقيم في النَّصباء، قُدّم فيه العشاء للناس بعد صلاة العصر بقليل، ووزع اللحم على الضيوف توزيعاً حيث كان رجلان يحملان «القُفَّة الكبيرة» مليئة باللحم، ومعهما رجل يقبض منها قبضة يقدمها إلى الضيف حتى تم التوزيع على الضيوف كلهم؛ أقول: لو لم يكن إلا هذا لكفى به تميُّزاً بالنسبة إلينا، فقد رأينا أنا وأخي بأمِّ أعيننا صورة من عادات منطقة الباحة كانت قد اختفت آنذاك عندنا في معظم بلاد غامد، وكان جدِّي يحدثنا عنها وكنا نتمنى أن نراها رأي العين، وقد تحقق ذلك في تلك الزيارة. أما السبب الثالث للتميُّز: فهو ما حدث من معرفتي بإخوة أفاضل من أبناء زهران، تربطهم قرابة بالشيخ «مبارك» وأسرته، ومن نشأة علاقة صداقة معهم جعلتني أستجيب لدعوتهم، فأنزل معهم من قرية النَّصباء سيراً على الأقدام إلى قريتهم «الغمَّد» في رحلة ماتعةٍ لا تُنْسى، حظينا فيها بكرم الضيافة، وتجولنا في المزارع التي كانت حافلة بالزراعة، والأودية والشعاب التي كانت مفعمة بالنشاط وحركة الناس؛ حرثاً، وصِرَاماً وسقيا، وسبحنا في بئر القرية الكبيرة ذات الماء الغزير العذب سباحة تضاهي السباحة في أفضل مسابح الناس الآن التي تُجهز بمبالغ مالية طائلة. إن معرفة الرجال تجارة، وها أنذا أتعرف - في ذلك الوقت - على إخوة كرام هم الآن من رجال العلم والتربية، ومن ذوي المكانة الاجتماعية، وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز بن حنش الذي استضافني هذه الاستضافة المباركة، وأخوه عبد الرحمن، وفضيلة الدكتور «أحمد العمَّاري» الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقد سعدت بلقائه في هذه المحاضرة، وغيرهم من الإخوة الأفاضل. هكذا - إذن - أتاح لي الأخ الشيخ «عبد العزيز» هذه الفرصة الثمينة للقاء برجالات العلم والأدب وأعيان المجتمع وبعض رجالات المناصب والوظائف الحكومية ورجال الأعمال من أبناء زهران في هذه المحاضرة التي تناولت فيها جوانب من البعد التاريخي والثقافي لمنطقة الباحة، وهو ما سأختصره لكم في مقالةٍ قادمة - بإذن الله -. إشارة في أيِّ روض محبَّة تلقاني في غامدٍ أم في رُبى زهرانِ