ما أسهل أن تستخف بعقول أمة عاشت قرونا تقتات على تاريخها وتكذب واقعها وترمي أخطاءها على مؤامرات الغرب والشرق وتعيش أحلاما وردية نُسجت على إيقاعات هلوسة المعذبين والمضطهدين الذين كانوا يتسلون بهذه الأحلام عن حرارة آلام سطوة الحديد والنار التي سيقت بها الأمة لقرون خلت، حتى استخفت اليوم عقولها فأصبحت تبعا لمن يلامس عواطفها، وأمست وقد جعلت من هذه التبعية إرثا مقدسا يُجالد دونه بالمال والدم. هذه أمتي في قرونها المتأخرة، فكيف أصبر على أن لا أبكي أمتي. كان يقال إنه من لم يصبح فضيلة شيخ أيام حرب الخليج فلن يصبح فضيلة شيخ أبدا. فقد كان يكفي حينها أن يكون طالب العلم متحدثا لبقا أو خطيبا مفوها أو ذكيا ألمعيا ثم يرتقي المنبر فيداعب عواطف الناس بحديث جريء حتى يصبح شيخ الإسلام وسلطان العلماء. وتلك فترة قد خلت، وغياب الوعي فيها قد أدرك طلبة العلم هؤلاء آنذاك كما أدرك غيرهم. وكنت أعتقد أنها فترة ذهبت ولن تعود، ولكن يظهر أن الضرر الذي لحق بعقول أمتي عبر قرون من التحجير الفكري أكبر من أن يصلحه عقد من الصحوة الفكرية التي تعيشها الأمة في حاضرها اليوم. والصحوة الفكرية الحديثة وإن كانت ما تزال غضة ضعيفة إلا أنها منعت الأذكياء من أصحاب المواهب الفكرية أو الخطابية من الجيل الثاني من طلبة العلم الشرعي من تكرار سيناريو التسعينات لعلمهم بأن الناس اليوم ليسوا كالأمس. غياب هذه النوعية الموهوبة من طلبة العلم فتح المجال لأمثال الدكتور يوسف الأحمد بأن يركب سيناريو التسعينات ليصبح فضيلة الشيخ، ولكن هيهات ليس التقليد كالأصل. فالدكتور يوسف الأحمد ليس صاحب كرزما، وليس خطيبا، وليس فقيها فلا يوجد له بحث فقهي مستقل في مسألة ما رغم تفرغه لهذا، ولم يُسمع له حوارا منطقيا عقليا، ولم يؤصل قط مسألة شرعية قد كثر صياحه من أجلها، فكيف أصبح وهو يُطلق عليه فضيلة شيخ؟ الحرية الفكرية التي نعيشها اليوم هي حق إنساني للمجتمع كما هي حق للدكتور يوسف الأحمد، ولست هنا أدعوا لإسكات الدكتور يوسف الأحمد فمن أبسط حقوقه أن يصيح الدكتور ويصرخ كما يشاء، ما لم يؤلب أو ينظم أو تتعدى حريته حريات الآخرين. ولست هنا أيضا لأناقش الدكتور يوسف الأحمد فهو لم يطرح فكرا للنقاش ولا مسألة فقهية له فيها رأي مستقل للتدبر. فالسيناريو الذي يتبعه الدكتور الأحمد سيناريو يليق بقدراته الفكرية والعلمية، فهو يتبنى آراء اجتماعية بسيطة كثر الجدل حولها -ولا تخفى تفاصيل حُججها حتى على الأطفال فتراهم يطرحون أدلتهم الشرعية والعقلية حولها - ثم يحاول فرضها بالصياح والزعيق وبإساءة الأدب مع وجهاء القوم وكبرائهم. لم أكن لأكتب عن يوسف الأحمد لولا أنني رأيت مقالا كتبه أحد العقلاء بدأه بقوله «فضيلة الشيخ يوسف الأحمد» فانتصرت لهذا اللقب لكي لا يفقد قيمته ومكانته، ولكي لا نعكر هذه الصحوة الفكرية التي نعيشها، فنرجع إلى الخلف فنتصور أن كل من حمل شهادة في العلوم الشرعية هو فضيلة شيخ. اهتمامات الناس دلائل على عقولها. فهناك من همه التسلق بمطاردة المرأة والبحث عن عورات الناس، وهناك من يفني نفسه من أجل تشريع الخرافة ونشر ثقافة الحسد والجن والسحر، وهناك من حمل هم الغناء خشية عليه أو منه، وهناك من كان همه قطع مكافآت الأئمة والمؤذنين، وهكذا، والمسكوت عنه هنا أن ليس مستوى العقل وحده هو المسؤول عن أمثال هذه الاهتمامات بل الفراغ أيضا. فلو سبرنا أصحاب أمثال هذه الاهتمامات لوجدنا أنهم أعفوا من أعمالهم، والتشيخ والفراغ والجدة مفسدة أي مفسدة.